يتعين علينا كشعب يعيش حالة مجابهة شاملة مع المشروع الصهيوني أن نؤمن إيماناً عميقاً بحتمية الانتصار على هذا المشروع، فهذا الايمان هو حجر الزاوية، وعلى أساسه تنطلق الإرادة المكافحة والمتفائلة في إحراز هذا الانتصار، تلك الإرادة التي تدافع عن حضورها في التاريخ والجغرافية؛ فقدرتنا على تشكيل تاريخنا القادم يتوقف على الإرادة والوعي، وطالما أننا نعيش مرحلة تحرر وطني بكل تناقضاتها وأزماتها وتضحياتها يتعين علينا الاعتراف أن حل مسألة التحرر الوطني لا يأتي على طبق من ذهب، بل تأتي مشروطة بتحديات للخروج من حالة الاستعصاء الراهنة، وكسر حلقاتها المفرغة بعد الفشل الذريع الذي وصل إليه مشروع التسوية.
إن شعبنا يتعرض لحرب يومية تستهدف وجوده، وعليه أن يتقن كيفية الدفاع عن هذا الوجود، ويحمي نفسه ويدافع عن كرامته، ويناضل من أجل استرداد حقوقه التي تتعرض كل يوم للانتهاك من قبل السرطان الاحتلالي الصهيوني.
ثمة ثلاث معالم مهمة في الطريق لحرية شعبنا وانعتاقه، وبدوها لا يمكننا انتزاع حقوقنا المسلوبة وإلحاق الهزيمة النهائية بالمشروع الصهيوني، وأول هذه المعالم في الطريق إلى الحرية الوحدة الوطنية؛ فالوحدة الوطنية ليست مجرد شعار نتغنى به عبر الفضائيات والمهرجانات، وليست مجرد عبارة للمجاملات الحزبية والفصائلية، بل هي ضرورة موضوعية تشكّل سلاحنا القوي في مواجهة العدو، وشرطاً من شروط الحرية والتحرير.
والعدو يعرف حجم استفادته الكبير في ظل حالة الانقسام والتشرذم الوطني وتعددية الخطابات الوطنية، ولا أقول السياسية فنحن من الضروري أن نختلف في السياسة ولكن على قاعدة الاتفاق على الأهداف.
والوحدة الوطنية هي مؤسسات ولجان وطنية موحدة في النضال الميداني وبيئة نقية بعيدة عن لغة التخوين والتكفير والتشكيك والغموض والالتباس، وثقافة وطنية أصيلة وديمقراطية وأعراف وتقاليد ومناخ من الثقة والتضامن والأمان.
والوحدة الوطنية تحتاج إلى حوار وطني جاد ومعمق لا يشمل القوى والفصائل الوطنية فحسب، وإنما يشمل المجتمع الفلسطيني بكل فئاته وطبقاته وشرائحه ومؤسساته الأهلية ونخبه السياسية والثقافية والأكاديمية، ولا يجوز أن يظل عنوان الوحدة الوطنية مقتصراً على فتح وحماس والاستمرار بالمناداة بالمصالحة مع أن المصالحة تشكّل مدخلاً لرأب الصدع وتؤسس لمصالحة وطنية شاملة، وصولاً إلى توحيد خطابنا الوطني والسياسي وأدواتنا النضالية والاتفاق على الكيفية التي ندير بها صراعنا مع المشروع الصهيوني وصولاً إلى هزيمتها لنهائية.
أما أن يظل هذا العنوان مجرد شعار للاستخدام الاعلامي والاستهلاك الشعبي والتوظيف السياسي، فإننا لن نجني سوى المزيد من الإخفاقات. وجميعنا يعرف مدى الخسارة الحقيقية لشعبنا وقضيتنا مع كل يوم يمضي بدون تجسيد هذه الوحدة.
والمشكلة التي تحول دون إنجاز هذه الوحدة متوقفة على الإرادة السياسية والجميع يتهم الجميع بتعطيل الوحدة، وهذه الاتهامات لا تخدم القضية وإنما يفوت علينا الفرصة تلو الفرصة، ويضع وقتاً ثميناً يمكننا استثماره في التصدي لممارسات العدو على الأرض، وتجسيد هذه الوحدة ينبغي أن يبدأ من الشارع والميدان الكفاحي وفي الجامعات والمجالس المحلية والمؤسسات الأهلية والنقابات والاتحادات الشعبية، والضغط على الفصائل الوطنية لتتويج هذه الوحدة في الممارسة، وفي لغة الخطاب الوطني، وفي بناء المؤسسات وتوحيد الهدف وتصويب المسار.
على شعبنا أن يباشر في تجسيد هذه الوحدة على الأرض من خلال تشكيل اللجان الشعبية في كل قرية ومخيم ومدينة، وأن تتوحد في ميدان الفعل النضالي والتصدي لممارسات الاحتلال، وأن تكون هذه اللجان والمؤسسات مقاومة بالضرورة وتدرك مسئولياتها التاريخية وتزاوج بين نضالها الديمقراطي الذي يسعى إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وبين نضالها الوطني ضد الاحتلال.
أما المعلم الثاني في الطريق للحرية المقاومة، علينا أن نجسد المقاومة ونكرسها في كافة الميادين، فما يمارسه الاحتلال من انتهاكات يومية على الأرض من مصادرة للأرض والاستيطان وإطلاق العنان لقطعان المستوطنين ليعيثوا فساداً في الأرض وقتل وتشريد واعتقال وحصار وتجويع وإفقار وتجهيل وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وتقييد للحريات وتخريب للبنية التحتية وإفساد للمجتمع الفلسطيني وتدمير اقتصاده وطمس هويته الوطنية وتهويد المقدسات والتنكر لأبسط الحقوق الإنسانية، إنما ينطوي على تهديد وجود شعبنا على هذه الأرض وهو ما يستدعي الاستعداد الدائم واليومي لمجابهة مع الاحتلال وسياساته العدوانية.
علينا أن نكف أولاً عن الشعور بالهزيمة فنحن شعب يقاوم المشروع الصهيوني منذ مائة عام ولم ينكسر، ومجرد وجودنا وثباتنا على هذه الأرض هو انتصار لحقنا في الحياة والوجود، وإفشال للمشروع الصهيوني الذي قام على أساس نفينا من التاريخ والجغرافيا. فكيف لشعب كشعبنا يتعرض فيه كل يوم للتهديد ولا يكون مقاوماً؟ فالشعوب المقاومة تستحق الاحترام، وتفرض هيبتها وحضورها وتردع عدوها من الاستمرار في سياساته، وتلجم ممارساته المتغطرسة.
والمقاومة ثقافة يجب أن تشمل كل شيء السياسة والاقتصاد والثقافة والتنمية، مقاومة شعبية، مقاومة مدنية، أو مقاومة عنفية ومسلحة حسب الحالة والواقع الملموس، علينا ألا نتردد في اتباع وسائلنا النضالية في كل مرحلة ومحطة، فنحن الذي نحدد الطريقة التي نرد فيها على عنف الاحتلال، ولسنا بحاجة إلى وصافات وتنظيرات القوى العالمية المنحازة لـ"إسرائيل"، والمقاومة يجب أن تشمل مكافحة التجسس والخيانة والآفات الاجتماعية التي باتت تتفشى في المجتمع الفلسطيني بالسنوات الأخيرة كالدعارة والمخدرات والثقافة الاستهلاكية المنفلتة من عقالها، والتي لا تليق بشعب تحت الاحتلال، ومكافحة مظاهرة التخلف كالعشائرية والمناطقية ومحاربة اللصوصية والفساد، والنوادي الليلية التي تسئ لشعبنا ونضاله، ولنا عبرة في الانتفاضة الأولى وثقافتها الوطنية الأصيلة والمميزة، والتي جعلت شعبنا كله كتلة واحدة في مجابهة الاحتلال.
والمقاومة تعني العودة إلى الأرض واستصلاحها وزراعتها وحمايتها من وحش الاستيطان، وإسناد المزارعين ودعم الإنتاج الوطني/ والنضال الحثيث في سبيل استرداد حقوقنا المائية، وترشيد استهلاكها والحفاظ على البيئة من التلوث.
المقاومة هي أن نقاتل على جبهة الثقافة والدفاع عن التاريخ والتراث الوطني والقومي الأصيل كالإنتاج الثقافي والأدبي والفني الملتزم ومحاربة مظاهر التخلف والاستبداد والتحجر، هي تعني تحرير المرأة وإشراكها في العمل النضالي والتنموي والإنتاجي والثقافي والتعليمي والسياسي، وتشجيعها لأخذ دورها في المجتمع والمؤسسات. والمقاومة تعني تنمية حقيقية تأخذ في الحسبان الانحياز للطبقات الفقيرة كالعمال والفلاحين. تنمية تعتمد على المجهودات الذاتية ومساعدة الأصدقاء في العالم، وتبتعد عن وصفات صندوق البنك الدولي والمؤسسات الأمريكية التي تسعى إلى تخريب المجتمع الفلسطيني، وحرف تنميته الوطنية نحو توجهات ليبرالية اقتصادية وحرية السوق والاستهلاكية المفرطة والخصخصة.
والمقاومة تعني إصلاح نظام التعليم وتطويره وتدعيم المؤسسات الصحية والبنية التحتية وتطوير الجامعات والبحث العلمي، وخلق بيئة لتطور مؤسسات المجتمع المدني.
والمقاومة تعني مجابهة التطبيع بكافة أشكاله السياسي والاقتصادي والثقافي والأكاديمي مع الاحتلال ومؤسساته، ومقاطعة المنتوجات الإسرائيلية ووقف الشراكات الاقتصادية في كلا الجانبين.
والمقاومة تعني توطيد العلاقات مع أبناء شعبنا في الشتات ومناطق الـ48، وتفعيل كافة الطاقات الوطنية وتوطيد العلاقات مع الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم ـجمع، والاستفادة من تضامن العالم الكبير مع قضيتنا الوطنية.
إن تركيم الانتصارات الصغيرة والإنجازات والبناء عليها والحفاظ على المكتسبات الوطنية التي تعمدّت بالدم، وعدم السماح بتبديدها تعني الحفاظ على إرث الشهداء والأسرى والجرحى، ورعاية ذويهم واحترام تضحياتهم. المقاومة هي بث الأمل والتفاؤل بدلاً من اليأس والإحباط، هي إحياء الأحلام بدلاً من قتلها، هي تعزيز روح الصمود والتحدي بدلاً من الخنوع والاستسلام، هي تشجيع النقد الهادف والبناء وإتاحة الفرصة أمام قطاعات شعبنا لتعبّر عن رأيها، بدلاً من تكميم الأفواه والتضييق على الحريات وانتهاكها، بدلاً من الاعتقالات السياسية وملاحقة المقاومة.
أما المعلم الثالث فهو بناء المؤسسات، بدءاً بمؤسسات منظمة التحرير ومروراً بمؤسسات السلطة الفلسطينية، وانتهاءً بالمؤسسات الأهلية الشعبية.
يتعين علينا الاعتراف بأن مؤسساتنا مترهلة تعاني من التضخم والبيروقراطية المركزية الشديدة وقلة الإنجازات، إنها أشبه بالإقطاعيات الخاصة لحفنة من المسئولين الذين يبقون على رؤوس هذه المؤسسات لسنوات طويلة، وربما مدى الحياة.
إن مؤسسات منظمة التحرير بحاجة إلى إعادة بناء وترميم وتفعيل، ولا يجوز إبقائها مطية لنزوات شخصية، وللاستخدام السياسي وللمناكفات، وإعادة البناء يجب أن تشمل دمقرطة هذه المؤسسات وفتح أبوابها امام الاتجاه الإسلامي، وينبغي تفعيل الاتحادات والدوائر الخاصة بالمنظمة، بدلا ًمن إبقائها محنطة لا تمارس مهامها الفعلية.
أما مؤسسات السلطة فينبغي إصلاح هياكلها، لتتسع لكافة هيئات ومكونات الشعب الفلسطيني، بعيدا ًعن منطق الإقصاء والتهميش والإلغاء، والمجلس التشريعي يجب أن يلعب دوراً مهماً في مرحلة التحرر الوطني، فأين هو دوره في مجابهة تشريعات الكنيست العنصرية، ألا يمثل هذا المجلس الصيغة التشريعية والقانونية المعترف بها دولياً؟ كيف يمكن السماح بتعطيل المجلس طيلة أكثر من عشر سنوات دون أن يتنبه أحد لخطورة الفراغ الذي يخلفه هذا التعطيل.
أما الأجهزة الأمنية فيجب إعادة بنائها على أسس وطنية ومهنية، وليس على أساس حزبي وفئوي وعشائري وإقطاعي، لكي تحظى باهتمام وتقدير الشعب الفلسطيني بدلاً من شعوره بالاغتراب عنها وعن ما تمارسه من انتهاكات، وعملية إعادة البناء يجب أن تنطوي على فصلها من وظيفتيها التي أنشأت على أساسها بموجب اتفاقات أوسلو المتمثلة في حراسة أمن " اسرائيل"، ويجب وقف كافة أشكال التنسيق الأمني والعمليات مع الاحتلال، ويتعين محاربة النزعات الوصولية والانتهازية والانحطاط الأخلاقي، والعلاقات الزبائنية والمحسوبية في مؤسسات السلطة، ومكافحة البيروقراطية الحكومية والعصبوية الحزبية، وتكريس المعايير المهنية والوطنية والأخلاقية في الوظائف والتعيينات.
أما المؤسسات الأهلية والشعبية من اتحادات ونقابات ولجان ومنظمات ينبغي تثويرها وتفعيل دورها الميداني وتحويلها إلى مؤسسات مثمرة وفاعلة ومتكاملة في أنشطتها، وتركيز جهودها المدنية والقانونية والثقافية والخدماتية والزراعية والصحية والتعليمية نحو المقاومة والبناء والتنمية، بدلاً من تكريسها كإقطاعيات خاصة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأمهات.
إن هذه المعالم الثلاثة هي أساسية في الطريق إلى الحرية والتحرير، وهي معركة علينا أن نخوض غمارها أولاً في الداخل، ولا بأس أن يتحّول الحوار الداخلي حول هذه العناوين إلى خلافات وشجارات وحتى صراعات. وفي نهاية المطاف علينا أن نتفق على ضرورة تصليب بنيتها الداخلية، كي تستطيع أن تصمد وتجابه الاحتلال ومشاريعه. آن لنا أن نواجه بعضنا بصراحة وبجرأة بهدف مغادرة مربع الازمة والاستعصاء ونبحث عن حلول عملية لمشاكلنا ونفتح ورشة للبناء والعمل ومقاومة المحتل.
إن هذه العناوين مترابطة جدلياً لا يمكن فصل الواحدة عن الأخرى، ولا أولوية لواحدة على الأخرى، وإنما يتوجب العمل عليها في ذات الوقت فالمقاومة يجب أن تبني وتوحد، لا أن تهدم وتفرق، والوحدة الوطنية تساهم في خلق مناخ للبناء وتشكّل ركيزة للمقاومة بكافة أشكالها، وعملية البناء المؤسسي تدعم الوحدة الوطنية وتساهم في تعزيز الصمود والمقاومة، وبدون هذه الثلاثية ستظل معركة التحرر الوطني قاصرة عن بلوغ أهدافها.
كميل أبو حنيش (*)
مسئول فرع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سجون الاحتلال، ومن أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة
مركز حنظلة للأسرى والمحررين