بدون سابق انذار تغير الطقس. كان صباحا باردا جدا وماطرا، الأمر الذي أعاق وصول بعض الطلاب في الوقت المحدد لبدء الدراسة. شعر الذين وصلوا متأخرين ببعض الرهبة، بان يكون المحاضر قد سبقهم، دون ان يؤثر اختلاف الطقس على توقيتاته المبالغ فيها، وما سببه اختلاف الطقس المفاجئ من ازدحام الشوارع بالمركبات وبطء غير عادي في حركة السير.
كان المحاضر لا يتهاون في مواعيد محاضراته ويصر على التزام الطلاب الكامل بالدقيقة لمواعيد دروسه، ويرفض دخول اي طالب بعد ان يكون قد دخل الصف واتخذ مكانه المعتاد بادئا درسه. وله في ذلك نظرية متكاملة ترى بالوقت ملكية اجتماعية عامة غير قابلة للتصرف حسب الأهواء الشخصية. لكنه اول يوم ماطر وفوضى سير، واكتظاظ في الحركة المرورية، وربما يكون قد تعوق هو نفسه لنفس الأسباب. كما تمنى الطلاب وهم يهرولون ركضا لقاعة المحاضرات. كان من عادة المحاضر ان يدخل متأخرا دقيقتين تماما، فاتحا المجال للطلاب للوصول الى مقاعدهم والاستعداد العقلي لدرس الفلسفة.
المستهجن ان ذلك الصباح الماطر والبارد، تأخر المحاضر عشر دقائق كاملة قبل الدخول الى الصف، رغم ان البعض شاهده يدخل حرم الجامعة، قبل الوقت بعشر دقائق. مما أنقذ الكثير من الطلاب من ابقائهم خارج القاعة. ولكن تبين كما قال أحد الطلاب ان "اليوم عسل" بسبب الخير الدافق من السماء. صحيح انه يمكن نقل تفاصيل المحاضرة عن كراريس الزملاء .. غير ان فقدان ساعة تسبب لهم مشاكل مع العلامات التي يسجلها المحاضر على أعمالهم، ويلزمهم بتعويضها بمواعيد أخرى، الأمر الذي يسبب لهم ضغوطات دراسية وضيق في الوقت، وعلامات أقل مما يعتقدون انهم أهل لها. لذا يمكن القول ان مواعيد دروسه كانت من الدقة لدرجة يمكن ضبط أفخر الساعات السويسرية على ثوانيها. وقد انتشر في محيط الجامعة اصطلاح يقول " توقيت محاضر الفلسفة" ويعني الالتزام بالثانية، واعتبار الوقت موضوعا حاسما في البناء العقلي للإنسان، وفي تقييم رقي المجموعات البشرية.
كان يردد قولا يقول ان الفرق بين مجتمع حضاري متقدم ومجتمع بدائي متخلف، يتعلق بشكل قاطع بفهم قيمة الوقت، وانه ليس ملكا خاصا يتصرف به البشر على أهوائهم. وكثرا ما كرر المحاضر امامهم نظريته التي تقول انه لا قيمة للفلسفة والتفكير الفلسفي الا بتحديد إطار للوقت يلتزم فيه العقل بدقة المواعيد، ودقة وقت الحديث، بحيث لا يتحول الى ثرثرة وفوضى، لأن ذلك يقود الى فوضى في المخ البشري، والاستهانة بالفكر، الذي لولاه لظل الانسان بعيدا قرونا عديدة عن الواقع المتطور الذي وصله اليوم. وأن ضبط الوقت يضبط تصرفات الانسان، وينظم حياته، بحيث لا يمر الزمن سدى، والوقت هو القيمة العليا لكل مجتمع يخطط للرقي والتقدم وتطوير ملكاته العقلية والعلمية والبشرية. وكان يردد دائما:" بان مجتمعا يعيش غارقا بماضيه، لا مستقبل
له ". ويفسر قوله: " الماضي زمن لا يمكن استعادته، او تكراره بنفس الإطار مهما كان عظيما، عظمته هي في وقته الذي لم نعد نعيشه، وما تبقى منه مجرد تاريخ ونوسطالجيا، لا قيمة له خارج الفكر التاريخي. ويقول:
- من المستحيل ان نعيد الزمن الى الوراء الا بقصص الخيال العلمي، وفي الواقع التمسك بالماضي هو تمسك بحلم، وعندما يفتح الحالم عينيه، سيرى انه خسر حاضره أيضا وعلى الأغلب مستقبله أيضا. يجب ان نعيش الواقع وليس الحلم. ما سيأتي، او ينشا، سيكون الجديد فقط، كان الماضي جديدا في زمنه، واليوم لم يعد ينفع الا لمتاحف التاريخ. رفض الجديد هو وأد للوقت. وعندما يصحو العقل، سيكون كل شيء متأخرا من ناحية الوقت والوقت لا يرحم. لا نملك الوقت، بل الوقت يملكنا بمفهوم ما، إذا لم نندمج مع حركته، الصاعدة دائما الى أعلى، ستصير المسافة بيننا وبين الزمن أكثر اتساعا لدرجة يستحيل تجاوزها. وربما نفقد انتمائنا لنفس الانسان السائر مع الزمن، وسيجدون لنا انتماء لنوع جديد مختلف عن ذاك الذي نلهث اليوم وراء منتوجات حضارته. هذا حدث في تاريخ تطور الانسان عبر عصور التاريخ، ولا يوجد قانون يقول ان البشرية اليوم ستبقى من جنس واحد متساو، الا في الشكل. ان من يفقد ساعتان كل يوم من أجل طقوسه، هذا يعني ان مجتمعه يفقد 50 ساعة انتاج شهريا، وإذا حددنا عد المنتجين ب نصف مليون منتج، يعني ذلك ان المجتمع يخسر كل شهر 25 مليون ساعة انتاج. وما هي النتيجة؟ المزيد من التأخر في مستوى الحياة، في الخدمات، في مستوى التعليم بكل مراحله، في تطور العقل، وفي دخول تاريخ الحضارة. لا اتحدث عن خيال، بل عن واقع ملموس، احسبوا الآن ضياع ساعات انتاج لخمسة ملايين منتج؟ النتيجة مرعبة. ضياع 250 مليون ساعة انتاج شهريا. في السنة 3 مليار ساعة. ما يضيع أضخم من ذلك. لو قلنا ان ساعة الإنتاج تنتج مردودها 10 دولارات بالمعدل، وهو حد أدنى في المفاهيم الاقتصادية الدولية، والمقياس الدولي يتراوح بين 50– 150 دولار انتاج في الساعة وأحيانا في الصناعات التكنلوجية المتقدمة أكثر من 300 دولار انتاج في الساعة، اذن تخيلوا الخسائر الرهيبة للمجتمع والانسان، بسبب الاستهتار بالوقت والظن ان الوقت لا قيمة اقتصادية له. والآن، طلابي الأعزاء المغرورين،( كما يتوجه لطلابه دائما..) باستطاعتكم ان تفهموا لماذا المجتمعات المحافظة والمنغلقة متخلفة، ولا تملك آفاقا تبشر بالتغيير .. او اللحاق بالتطور العاصف في عالمنا.
كان المحاضر، الى جانب دقة الوقت، يلزم طلاب الفلسفة بدقة التعابير، ومساحة الدقيقتين المقررتين للإجابة على أسئلة يطرحها المحاضر ليفحص ان طلابه متواجدين، ليس بأجسامهم فقط داخل القاعة، انما بعقولهم أيضا. وكانت نظريته تقول ان الذي يستوعب موضوعه، يستطيع تلخيصه بدقيقتين، وبأقل من دقيقتين .. وأن صحة الجواب او خطأه، ومدى استيعاب الطالب، او أي انسان، للموضوع الذي يتحدث عنه ، تظهر من الجملة الأولى. لذا "الثرثرة اتركوها لجداتكم"، كما يقول ببسمة ساخرة.
كان الطلاب يحبون دروس استاذهم، رغم صعوبة توقيتاته وتعصبه للوقت، ونهجه غير المهادن، والرافض لكل الحجج والمبررات الا حجة الموت .. "وهذه نعرفها من اعلانات النعي ونقبلها ولا نريدها لكم " .
الحقيقة الثابتة انهم تعودوا حقا على الالتزام بالوقت حتى فيما بينهم. وصار كل تجاوز في موعد، يثير امتعاضهم القوي. مثلا يلتزم الطالب ان يتواجد يوميا في قاعة المكتبة من الثالثة حتى الرابعة والربع .. وفي الرابعة والدقيقة السادسة عشر يكون خارج القاعة ... ورغم شخصية المحاضر الصعبة، الا ان محاضراته هي متعة عقلية غير عادية. ينقلهم فيها المحاضر الى عالم سحري من
الأفكار الفلسفية، التي قلبت عالمنا، وشكلت مضمونه الذي نحياه، عبر الطريق التي اجتازتها الشعوب، او الأصح القول الطريق الذي اجتازه الفكر الانساني، الى ما هو عليه اليوم من تقدم أو تخلف ومن سمو أو حضيض، يبرز في المجتمعات البشرية بحالات مختلفة أشد الاختلاف. يؤكد دائما وهو يشد على مخارج الكلمات:
- المسالة لا تتعلق بشعوب عبقرية وشعوب غبية، انما بتخطيط تربوي وتعليمي، وتبني المجتمع للعلوم كقاعدة للتقدم في جميع المجالات، واعتبار شل العقل بتلقين وترويج القصص الخرافية، وأنصاف الحقائق، والحكايات غير العلمية، جريمة ضد البشرية.
بعض ما كان يبدو لهم طلاسما مرهقة ومملة وعصية عن الفهم، أضحت بعد شروحات المحاضر حقائقا ملموسة، أدخلتهم الى أجواء لم يتوقعوها من الاندماج الروحي والفكري مع ذاتهم وعالمهم، الأمر الذي يعزز شعورهم بأن ما اكتسبوه حتى اليوم، يعتبر ثروة فكرية تجعلهم حقا مميزون عن أترابهم الذين اختاروا مواضيع أخرى او ذهبوا الى سوق العمل. بل وتجعلهم على نقيض مع عائلاتهم ومع مجتمعهم ومع واقعهم بكل قناعاته وأفكاره وعاداته وعلاقاته وعقليته، لدرجة ان بعض الآباء يظنون ان ابنائهم يفقدون عقولهم ويصابون بالاستعلاء والعقوق، بدل ان يزدادوا حكمة وتمسكا بموروثات الآباء والأجداد، من خلال دراساتهم الجامعية. عندما كان يسرد طلابه الإشكاليات التي يصطدمون بها مع عائلاتهم ومجتمعهم، بسبب ميلهم الى تطبيق ما اعتادوه من دروس الفلسفة، كان يغرق بالضحك وكأنه يشاهد مسرحية كوميدية. ثم يعقب:
- انا الآن سعيد بكم .. جهدي لم يذهب سدى "!
كان المحاضر يحلل أصعب الأفكار الفلسفية بقدرته على صياغة جمل نصية واضحة وكاملة المعنى، ويضيف لها النماذج الملموسة من الحياة نفسها او من الأساطير التي ترمز الى معاني معينة. ومع ذلك، كانت البداية معه مرهقة جدا، حتى استطاعوا التأقلم مع مفاهيمه التي كانت تبدو، قبل أقل من شهر واحد فقط، نوعا من التعسف والإذلال الذي لا مبرر له.
******
دخل المحاضر الصف بابتسامته الواسعة، والتي تخفي شخصيته " الألمانية " كما يقول الطلاب مستعيرين هذه الصفة للإشارة الى دقته وقسوته، والتزامه بانضباط مبالغ فيه في رأيهم ، في كل علاقاته ، حتى في المواعيد مع طالب للاستفسار عن مسألة معينة، يحدد وقتا دقيقا. مثلا من الثانية وخمس دقائق وحتى الثانية والثلث. لن يستقبل الطالب قبل ان يدق "توقيت الفلسفة " الثانية وخمس دقائق. ولن يعطي الطالب ثانية واحدة بعد الوقت المقرر. كان الطالب ينتظر على باب مكتب المحاضر، ونظراته تراقب عقرب الساعة، او كلمة أدخل حين يحين الوقت. وإذا صدف وتعوق، لن يلقاه مرة أخرى لفترة شهر كامل.
كثيرا ما تساءل الطلاب عن علاقة ذلك بالفلسفة؟ وحين تجرأت سعاد وسألته هذا السؤال ، تمنت ان تنشق الأرض وتبلعها لجوابه "النشاز والوقح " كما اشتكت لصديقاتها . قال:
- الوقت ليس علاقة غرامية بالسرير، هناك وقت مفتوح بلا حساب من العقل، كفي ضحكا ..( صرخ بعبوس على انطلاق ضحكات من مقاعد الطلاب) في الحياة نفسها من يضيع دقيقة يضيع ملايين الدقائق من حيوات ملايين البشر ، الوقت ليس ملكا شخصيا لأحد ، بمثل عقليتك يا سعاد لن يتقدم العالم ، وربما كنا ما زلنا حتى اليوم في العصر الحجري ومشاعية النساء ، مجتمعكم متخلف لأنه لا يقدر قيمة الوقت مثل المجتمعات المتقدمة ، يجب ان تكونوا جهازا فعالا لوضع
حد لفوضى الوقت .. والا لا قيمة لكل دراستكم للفلسفة اذا واصلتم حياة التهريج والفوضى وعدم الانضباط والمسؤولية بإنجاز العمل في وقته، وليس حسب التساهيل والنفسية والطقس والرغبات الشخصية ... لذلك انتم في الفلسفة، انتم امام اكتشاف لقيمة الزمن وارتباطه الوثيق بتقدم البشر والمجتمعات البشرية، والسباق نحو الفوز بالأولوية في الاكتشافات والتقدم المعرفي والتكنلوجي والعلمي، وليس السقوط بعادات لا تحترم الوقت وتحرقه بالخرافات والتنبلة والأوهام !!
على غير عاداته، في هذا اليوم الماطر، جلس يضاحك الطلاب، ويبدو ان المطر نقله الى نشوة لا يعرفونها به. ورغم مضي عشر دقائق على دخوله لقاعة المحاضرات متأخرا عشر دقائق أخرى، الا ان بعض الطلاب لم ينجحوا بالوصول بعد، والذين يصلون يقفون حائرين قرب الباب مترددين في الدخول، وحتى كلمة " ادخلوا " التي صدرت عنه لم تقنعهم انهم المعنيون بها. دخلوا رجلا للأمام وأخرى للخلف، ولم يشعروا بالاطمئنان الا بعد ان جلسوا على مقاعدهم. بعد مضي عشر دقائق أخرى قال المحاضر:
- المطر خير .. ولكن له فعل سلبي على درسنا اليوم وعلى قدسية الوقت. منذ الغد لن أقبل أي تعويق، نعود الى منهجنا. واضح؟ حتى لو تراكمت الثلوج الى علو متر كامل. خذوا احتياطكم .. لا يهمني ان تباتوا هنا. وتابع:
- حسنا، اليوم خمر .. نسمح لجميع الطلاب بالدخول، وغدا أمر .. نعود لمسؤوليتنا ونظامنا والتزامنا بالوقت، باعتبارنا رجال فكر وليس رواد مقاهي الأرجيلة! وسأل:
- ماذا كان درسنا الأخير؟ وجه نظراته للطلاب، فارتفع أكثر من صوت:
- تحدثنا عن البوذية ..
- أجل. الشتاء لم يؤثر على ذاكرتكم .. البوذية، كما قلنا هي أكبر دين في العالم. وظهرت في الهند في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، والمستهجن ان ستة الاف سنة وأكثر مرت منذ ظهور اول دين سماوي (اليهودية) يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، الا ان البوذية ما تزال تعتبر من أكبر الديانات انتشارا على وجه الأرض، كيف لم ينجح أحد من كل انواع الغزاة من دعاة الديانات التوحيدية، الى تقليص او زحزحة هذا الدين غير السماوي؟ بعد لحظة صمت وتجول نظراته بين الطلاب، أضاف:
- ينسب تأسيس البوذية الى الأمير الهندي سيدهارتها غوتاما ، وكان يلقب ببوذا وتعني "المتنور" ، ويعود سر نجاحها الى المساواة الدينية الروحية ومكافحتها تفرقة الناس الطائفية. من هنا قوتها وصلاحية استمراريتها. وانتشرت البوذية عدا الهند، في الصين واليابان وكوريا والعديد من بلدان جنوب شرق أسيا. حدثت تطورات على البوذية، قربتها من الفكر الإلهي، او التوسل لإرضاء الآلهة، ولكنها ظاهرة هامشية لدى بعض التيارات البوذية فقط .. وما زالت البوذية في جوهرها أقرب للتربية الشخصية والاخلاقية. أي ليست بجوهرها دينا سماويا. الكشف الفلسفي عن البوذية يعود فضله الى الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر أرتور شوبنهاورالذي تأثر بالفلسفة البوذية، ومن الجدير القول ان شوبنهاور كان نقيضا للفيلسوف الألماني هيغل.. كان ملحدا، ربما هذا ما قربه من البوذية كفكر غير الهي، ويمكن القول ان وجوهر فلسفة شوبنهاور كان بتأثيرها. يقول شوبنهاور: " نحن نحس بالألم اذا أصابنا، ولا نحس نهاية الألم ". تمييز جدير بالدراسة .. هذه ضمن روحانيات البوذية الفلسفية. وتطرح البوذية رؤية تقول ان السعادة ليست سلبية، ولكن السلبي هو الانسان الذي لا يحس بها". ومن هنا كان شوبنهاور ، تماما مثل البوذية ، يعتقد ان الحياة مجرد معاناة ، نضال واحباط . وان طريقة الهرب الوحيدة، او الخلاص من هذا الواقع،
هو الاستسلام. كبت الأشواق، وقمع الارادة للحياة. أي نوع من التصوف .. ولكنه تصوف بوذي شديد القسوة على الذات الانسانية. وتبرير ذلك عند شوبنهاور والبوذية، ان التنازل، بمفهوم الاستسلام أيضا، يقود الى الرحمة، او الشفقة على كل المخلوقات الحية وتقديسها، أي أشبه بصفعة لجعل النفس نقية. بينما هيغل رأى ان الشقاء طريق للسعادة في النهاية. في عالمنا اليوم يبدو هذا الوضع غير قابل للتنفيذ .. ولكن الحقيقة ان ملايين البوذيين يمارسون هذه الشعائر .. أكثر من شعائر أي دين توحيدي آخر.
قاطعه صوت طالب:
- هناك جمعيات الرفق بالحيوان .. هل لها جذور بوذية.
- لا علاقة شرطية، انما رؤية انسانية عامة. ربما نحتاج الى جمعيات الرفق بالبشر أيضا في هذا العالم الذي صار العنف والقتل من مميزاته. وتابع:
- البوذية وشوبنهاور سوية، رأوا ان الحياة دائرة متواصلة من الاحباط والملل. عندما لا نحصل على ما نريد، نصاب بالملل. وأن أكبر إحباط يحل على الانسان عندما يظن ان الفرج بات قاب قوسين أو أدنى من قبضة يده، وأنها خطوة ليحصل على أمنية طال انتظاره لها. لكن فجأة يتبين ان أمانيه أضحت أكثر بعدا رغم انها كانت شديدة القرب للحصول عليها. هناك اسطورة تفسر هذه الفلسفة: وتتعلق بفلسفة شوبنهاور المتأثرة بالبوذية وتعرف باسم "فلسفة السعادة والشقاء" .. وهي تفسر مفهوم السعادة والشقاء البوذي وهو لا يتناقض مع مفاهيم كل المجتمعات البشرية، بعد ان صمت دقيقة، قال:
- كان أميرا جميلا، قامت ساحرة شريرة بحرمانه من الكلام، الا كلمة واحدة كل سنة. وإذا تجاوز المحظور، فسوف يصاب بالعمى والطرش أيضا. فالتزم المسكين بما كتب له من الساحرة الشريرة. ولكن الساحرة سمحت له بتوفير الكلام، بمعنى: اذا لم يستعمل الكلمة في سنة معينة، يستطيع في السنة التي تليها ان يستعمل كلمتين .. وهكذا دواليك .. ما يوفره من كلمات، يستطيع استعمالها في سنوات تالية. التقى في حديقة القصر، بأميرة رائعة الجمال، جاءت مع والدها في زيارة ملوكية، فأعجب بها وعشقها بكل روحه، اراد ان يقول لها: " أميرتي الجميلة "، ولكنه لم يكن يملك في السنة الأولى الا كلمة واحدة لا تفي بالغرض. فصمت مضطرا سنة كاملة. رد الزيارة بعد سنة، وقبل ان ينطق بالكلمتين، فكر وقال لنفسه ولكني أحبها واريد ان أقول لها، أميرتي الجميلة، أنا أحبك " وهكذا ينقصه سنتين أخريين، فصمت، بعد سنتين قال في نفسه انه يريدها زوجه له ، ويريد ان يقول لها : اميرتي الجميلة انا أحبك ، هل تقبليني زوجا لك ؟" ولكلمات " هل تقبليني زوجا لك" يحتاج الى اربعة سنوات أخرى. فصمت. وهكذا مرت ثماني سنوات، وبحماس سافر اليها ليقول لها كلماته التي وفرها لمدة ثماني سنوات: " أميرتي الجميلة، أنا أحبك. هل تقبليني زوجا لك؟ " سار مع الأميرة في حديقة القصر، بين الزهور والعصافير المغردة والجو الشاعري اللطيف، شاعرا بنبض قلبها في ذراعه الذي تتأبطه الأميرة .. متحينا الفرصة ليقول ما وفره من كلمات خلال الثماني سنوات، وتحت شجرة وارفة الظلال، توقفا يتأملان مجرى النهر أمامهما .. وقرر انها الفرصة المناسبة التي يستعد لها منذ ثماني سنوات، وبدون سابق انذار قال لها: أميرتي الجميلة، انا احبك، هل تقبليني زوجا لك؟
تفاجأت الأمير بسماعها صوت الأمير، فالتفت اليه متسائلة: بردون ، ماذا قلت ..؟ لم انتبه لكلماتك.
رغم شعور الطلاب بالألم على الأمير .. الا ان ضحكهم كان قويا، طلبت الطالبة مروّة الإذن بالكلام:
- مأساة حقا بعد ان كاد يحصل على ما يريد، لا بأس عليه، سينتظر ثماني سنوات أخرى .. لكن البوذية شهدت في القرنين السادس والسابع الميلادي، تطوير نوع جديد من البوذية، بادعاء ان الفلسفات والعقائد الأخرى مجرد اوهام وتضليل، وابتعاد عن النورانية التي تحل على الانسان من قوى عليا، بممارسة رياضات معينة للتأمل مثل "النيرفانا " ، ولفهم نهجهم الجديد ، يطرحون سؤال فلسفي لم أجد له جوابا:
- ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة فقط؟
- هل وجدت الجواب يا مروة؟ سألها المحاضر.
- اظن أني سأغير ديني الى البوذية وامارس النيرفانا ، لأجد الجواب..
- اذن سننتظر الجواب من مروة .. معنا أربع سنوات !!
بقلم/ نبيـــل عـــودة