شعب فلسطين المنتفض إنتفاضة تلوَّ أخرى، والثائر ثورة تلوَّ أخرى، شعب فلسطين رفض أن يكون (ضحية دائمة) ولم يتاجر يوماً بمظلوميته الواضحة وضوح الشمس، رغم كونه ضحية متميزة بين ضحايا الإستعمار والصهيونية، حافظ على كبرياءه ومثله وقيمه، خاض نضالاته بفروسية وشرف، صبر وصمد، في وطنه وفي خارج الوطن رغم شتى أصناف العذاب التي عانى ويعاني منها بسبب سياسة الإستهداف الإستعماري الإستيطاني الصهيوني له منذ سقوط فلسطين تحت الإنتداب البريطاني في 06/12/1917م، وتمكين العصابات الصهيونية اليهودية من إغتصاب المساحة الأكبر من وطنه سنة 1948م وإقامة كيان الإستيطان الإستعماري الصهيوني على الجزء الأعظم من وطنه (78 % من مساحة فلسطين) وما تبقى من مساحته في قطاع غزة والضفة والقدس ألحق للإدارة المصرية أو ضم إلى الأردن الشقيق، ولم يسمح له بإقامة دولته التي نص عليها قرار التقسيم رقم (181) لسنة 29/11/1947م والذي أبقى له أكثر من 44 % من مساحة فلسطين، لم ينفذ القرار (194) لسنة 1948م القاضي بعودة لاجئيه ومشرديه الذين هجروا من قراهم ومدنهم إثر حرب الإبادة والتطهير العرقي التي مارستها عصابات اليهود الصهاينة في حقه سنة 47 / 48، وبقيت الدول المتنفذة ذات الإرث الإستعماري تغطي على جرائم كيان الإغتصاب، ولم تعني نفسها في تنفيذ القرارين الآنفين رغم أنهما صدرا عن الأمم المتحدة رغم إرادة الشعب الفلسطيني، ليكسبا جريمة الإستعمار والإستيطان العنصري اليهودي الصهيوني شرعية مزيفة، شرعية المستعمر المنتصر، شرعية القوة لا شرعية الحق والقانون والعدالة التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في وطنه كاملاً خالياً من كل أشكال الإستيطان العنصري العدواني والتوسعي، المرتبط إرتباطاً كلياً بحركة الإستعمار الكلونيالي التي مارستها بريطانيا في فلسطين وغيرها هي وبقية الدول الأوروبية الإستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية أربعينات القرن الماضي ورثة الولايات المتحدة التركة الإستعمارية الأوروبية تحت مسمى نطلق عليه (الإستعمار الجديد) رغم إنقشاع المستعمر الأوروبي، وظهور حركات التحرر في كافة الدول المستعمرة وفرض شروطها وإنهاء الإستعمار على الأقل في شكله المباشر العسكري والإستيطاني والعنصري، إلا أن الكيان الإستعماري الصهيوني الإستيطاني العنصري بقي يحظى بالدعم والرعاية من قبل تلك الدول الإستعمارية ووريثها الولايات المتحدة، وكأن هذا الكيان يجب أن يواصل وجوده وعنصريته وتوسعه على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في وطنه، بدءً من حق العودة وصولاً إلى حق تقرير المصير وإقامة الدولة، شعب فلسطين لم يستسلم لهذا العدوان ولهذا التواطئ المركب، خاض كافة أشكال الكفاح والنضال العسكري والسياسي والدبلوماسي والثقافي والإقتصادي، وتمكن من كسر إرادة المحتل وكشف زيف روايته، وإزدواجية المعايير في التعاطي مع القرارات الدولية والقواعد القانونية المنظمة لعلاقات الدول والضامنة لحقوق الأفراد والجماعات والشعوب والدول على حدٍ سواء، من خلال إرادته الصلبة بالتمسك بحقوقه الثابتة وغير القابلة للتصرف أو السقوط والإندثار مهما تطاول العدوان وتمادى التجاهل الدولي لهذه الحقوق الثابتة، شعب فلسطين شعب عربي أصيل يحمل قيم إنسانية راقية ترفض الظلم والعدوان وترفض التسليم والإستسلام لقدرية الإستعمار والإستيطان والتوسع، لذا عرف فنون المقاومة بكل أشكالها وألوانها، العنيفة والسلمية، القانونية والسياسية والثقافية والدبلوماسية، لقد أسقط الأقنعة عن قوى الإستعمار التي مكنت كيان الإغتصاب من الإستيطان والإغتصاب لوطنه، كما أسقط القناع عن وجه كيان الإغتصاب وأظهره على حقيقته الفاشية والعنصرية المتناقضة مع روح العصر والإنسانية والمجافية لمبادئ حقوق الإنسان ولقواعد القانون الدولي الطبيعي وإِقامته ودَعمه لأنه قائم على قيم تعادي روح العصر وروح العدل والإنصاف، وروح القانون والنظام الدولي وقراراته ...
من هنا دق الشعب الفلسطيني أجراس العودة، وأطلق مسيرته (العودة الكبرى) من قطاع غزة الذي يقطنه أكثر من مليون وثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني في مساحة ضيقة يوجد فوقها أعلى معدل كثافة بشرية على الأرض، ويفرض عليها الحصار والقتل والإرهاب، دون أن يجد من ينتصر لحقوقه ويعمل على ردع العدوان المستمر عليه، ويعمل على إعادته إلى وطنه إلى قراه ومدنه التي لا يفصله عنها سوى أسلاك شائكة تحرسها جنود ودبابات كيان الإغتصاب، بعد سبعون عاماً من المعاناة والتشرد واللجوء وتجريب كافة أشكال المقاومة والإنتظار للأمم المتحدة والقوى الدولية أن تعيد له حقوقه وفي مقدمتها حق العودة دون جدوى قَررَ إطلاق مسيرته الكبرى للعودة سلمياً رافضاً إستخدام أي من أشكال العنف حتى التي يستطيعها، ويتقدم نحو الأسلاك الشائكة والعازلة ونحو جنود الإحتلال بصدوره العارية أطفاله وشبابه رجالاً ونساءً، ليقتحم هذه الأسلاك محاولاً إختراقها للتوجه إلى قراه ومدنه التي أخرج منها عنوة وبالحديد والنار في حرب تطهير عرقية قَلَّ نظيرها في التاريخ الإنساني ... إن مسيرة العودة الكبرى التي تزامنت مع الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض المجيد في 30/03/2018م والتي ووجهت بالنيران والرصاص من قبل جنود العدو لم تثني الشعب الفلسطيني عن هذا القرار فقد إرتقى عشرون شهيداً ومئات الجرحى، لتكرر المسيرة في الجمعة التالية يوم 06/04/2018م (جمعة الكاوتشوك) والتي قوبلت أيضاً بالرصاص والنار وارتقى فيها عشرة شهداء ومئات الجرحى ...
كل ذلك لن يثني الشعب الفلسطيني وفي مقدمتهم لاجئيه من إستمرار هذه المسيرة موجة وراء أخرى وسوف لن تتوقف وتقتصر على اللاجئين في قطاع غزة وإنما أيضاً سوف تمتد إلى اللاجئين في الضفة الغربية والتي هي الأخرى تحتضن ما يزيد على مليون وخمسمائة ألف لاجئ، وكذلك اللاجئين في دول الجوار وخصوصاً في الأردن أكثر من ثلاثة ملايين من اللاجئين وفي سوريا ولبنان أيضاً ...
إن مسيرة العودة الكبرى قد أعادت تصحيح إتجاه البوصلة النضالية والمسار الصحيح نحو العودة التي أقرها (القرار 194) عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم إلى القدس وكل فلسطين، مسيرة العودة قد حققت الوحدة للشعب الفلسطيني وقواه في الميدان، وأعادت الإعتبار للحركة الوطنية الفلسطينية، وأعادت الإعتبار لصوت الشعب الفلسطيني والجماهير الشعبية، صاحبة القرار في الثورة وفي النضال حتى العودة والتحرير والإنتصار ...
إن مسيرة العودة الكبرى قد أعادت الإعتبار وأكدت على فعالية المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة كيان الإغتصاب وتعريته أمام العالم وأسقطت القناع عن وجهه العنصري الكلونيالي التوسعي ...
إن مسيرة العودة أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الصمود الفلسطيني والإرادة الصلبة للشعب الفلسطيني، وتمسكه بحقوقه هذه الحالة النادرة في تاريخ الشعوب تمثل المعادل الموضوعي لغطرسة وقوة كيان الإحتلال ...
إن مسيرة العودة أكدت أن النضال والمقاومة الشعبية ليست حالة نخبوية أو فصائلية أو حزبية إنما هي حالة شعبية جماهيرية ستستمر وتتواصل حتى تحقق أهدافها وسوف تتوالا موجاتها موجة تلوَّ أخرى ...
نعم رغم التضحيات الجسام التي وقعت والتي ستقع يوماً بعد يوم وجمعة بعد جمعة، فإن مسيرة العودة قد دقت جرس العودة إلى الوطن السليب إلى قراه ومدنه، لقد آن الأوان أن تسقط صفة اللاجئ عن الفلسطيني بتمكينه من عودته وتنفيذ القرار (194)، فالقضية الفلسطينية جوهرها قضية العودة وتقرير المصير، من يتجاهل هذان العنصران في أي مشروع تسوية فهو غير مبصر وغير منصف وغير عادل، وجاهل بحقيقة الشعب الفلسطيني وصلابة إرادته، التي تتحطم على صخرتها كافة المشاريع التصفوية، فكما أسقط كل المشاريع التصفوية فهو يسقط اليوم ما يروج له الرئيس ترامب (بصفقة القرن) المتجاهلة لهذان العنصران (العودة، وتقرير المصير، والقدس عاصمة).
التحية كل التحية لشعبنا الفلسطيني العظيم المنتفض الصامد والصابر والسائر نحو العودة والإنتصار في غزة والقدس والضفة، في الجليل والكرمل والنقب، في مخيمات الشتات ودول المهجر، لن يضيع حق وراءه مطالب، ولن يضيع وطن وراءه شعب صامد مناضل ثائر ...
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس