أثبتت جماهير الشعب الفلسطيني مرة أخرى قوة وتأثير المقاومة الشعبية عندما يُحسن إستخدامها بشكل منظم ومخطط.
وكما صنع الفلسطينيون في مدينة القدس إنتصار المقاومة الشعبية وأسقطوا بوابات نتنياهو أمام المسجد الأقصى، انبرى أهلُ غزة البواسل في مسيرة العودة الكبرى ليعيدوا إلى الأذهان مظاهر، وبطولة، وإبداع الإنتفاضة الشعبية الأولى.
وقد أكدت الوحدة الميدانية النضالية، وكذلك وحدة الهيئات القيادية للمسيرة ، أن من الممكن إعادة إنتاج نموذج القيادة النضالية الموحدة للمقاومة الشعبية، بحيث تتسم بحسن التخطيط والتنظيم، وتضمن الإنضباط الواعي في الحراك الشعبي لتفويت الفرصة على إستفزازات الجانب الإسرائيلي الرامية إلى جر الفلسطينيين إلى الميدان الذي يتمتع بالتفوق فيه.
وفي الوقت الذي إستخدم فيه الجيش والحكومة الإسرائيلية القوة العسكرية الهوجاء ففضحوا أنفسهم بأيديهم أمام العالم بأسره ،فإن أهم ما أنجزه الفلسطينيون كان إنتزاع زمام المبادرة ليس فقط من يد الحكومة الإسرائيلية ، بل ومن يد إدارة ترامب وصفقتها وقراراتها المخالفة للقانون الدولي، ومن يد كل من حاول الترويج للتطبيع مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية وشعبها.
ورغم فداحة الخسارة بفقدان اثنين وثلاثين شهيدا وإصابة أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني في القطاع والضفة الغربية حتى لحظة كتابة هذا المقال ، فإن رسالة الشعب الفلسطيني دوت في أرجاء العالم، وأعادت وضع القضية الفلسطينية على طاولة الإهتمام العالمي ، وبفضل براعة شبابنا وشاباتنا في إستخدام وسائل الإتصال الإجتماعي فُضحت وهُزمت دعاية حكام إسرائيل، الذين تصرفوا كمجرمي حرب بإطلاق الرصاص القاتل على المتظاهرين العزل .
كان بإمكان الفلسطينيين أن يشهروا السلاح في وجه جنود الإحتلال لكنهم تحلوا بالانضباط الكامل، و فوتوا الفرصة على الإحتلال لأنهم أدركوا قوة تأثير المقاومة الشعبية في تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني، وفهموا ان قيمة الفعل النضالي تقاس بتأثيره وليس بدرجة صخبه.
ومنحت المقاومة الشعبية كوسيلة للنضال الفرصة لمشاركة مئات الآلاف من الفلسطينيين في معركة النضال، بدل أن تقتصر على عدد محدود من المناضلين .
غير أن أهم ما حدث في الجمعتين الماضيتين وما سيحدث في الجمع القادمة ، ليس فقط في الخامس عشر من أيار، بل وما بعد الخامس عشر من أيار، أن المقاومة الشعبية الفلسطينية وضعت الإسرائيلين في حالة حيرة حقيقية، فإن إستخدموا القوة العسكرية يكونوا خاسرين، وإن لم يستخدموها يكونوا خاسرين، وتحقيق تلك الحيرة لدى الخصم هو الهدف الأكبر لأي نوع من المقاومة الشعبية .
بل إن الإسرائيليين بدأوا يحسبون ألف حساب لحقيقية أن المقاومة الشعبية تسبب لهم الخسائر المادية والمعنوية ، ومن شأنها إلغاء حالة " الاحتلال بلا كلفة" التي تمتعوا بها خلال فترة المفاوضات، وهذا ما يستدعي توسيع نشاطات المقاومة الشعبية في الضفة الغربية بما فيها القدس، و في كل أرجاء فلسطين.
ولعل ما يجري هو أكثر من مجرد مسيرات شعبية بطولية ترفض الحصار الظالم، فبالإضافة إلى تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره التي هجر منها، و تأكيد رفض شعب فلسطين لما يسمى بصفقة إدارة ترامب وقراره الأهوج بنقل السفارة الأميركية ألى القدس،فإن ما يجري هو تبني الشعب الفلسطيني لإستراتيجية وطنية بديلة لما فشل على مدار الخمسة وعشرين عاما الماضية.
إستراتيجية هدفها المركزي تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني بإستخدام أعمدة النضال الخمسة ، المقاومة الشعبية الواسعة، وحركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل، وتعزيز الصمود الوطني على الأرض ، وإعادة بناء التكامل بين مكونات الشعب الفلسطيني، وتحقيق الوحدة الوطنية وبناء قيادة وطنية موحدة للنضال الوطني الفلسطيني.
كانت الجمعة الماضية جمعة المجد الثانية للمقاومة الشعبية، التي إنطلقت شراراتها قبل ستة عشر عاما ضد جدار الفصل العنصري، مرورا بسفن كسر الحصار على غزة، وبقرى المقاومة كباب الشمس وأحفاد يونس، وبالصمود الاسطوري لقطاع غزة في وجه الاعتداءات المتتالية و الحصار الخانق، وبانتفاضة القدس الكبرى في وجه نتنياهو ، ووصلت اليوم إلى ذروة عظيمة تبشر بإستعادة مبادىء وأنماط الإنتفاضة الشعبية الأولى و ممارستها على موجات متتالية تتسم بالمزيد من الإبداع والتنظيم والذكاء والإعتماد على النفس.
بقلم/ د. مصطفى البرغوثي