ثلاثة أحداث سيطرت على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي، وأخذت وقتا طويلا من المندوبين الخمسة عشر في الأسبوعين الأخيرين داخل قاعة المجلس وخارجها، لإيجاد موقف موحد حولها، وفي الحالات الثلاث عجز المجلس عن حسم الجدل واتخاذ موقف موحد، مرة بسبب تباعد المواقف وتصنيف الضحايا بين ضحية لا قيمة لها وأخرى تستحق من أجلها إعلان الحرب. كل واحدة من الأحداث الثلاثة كشفت جانبا من سباق النفاق الذي ميز مواقف الدول دائمة العضوية، لكنني مضطر أن أبعد الصين قليلا من هذا السباق والتي تتصرف بهدوء ووضوح موقف أكثر من بقية الدول الأخرى.
لقد اتضح لنا أن هناك حلفا جديدا يتكون من دول الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، والإمبريالية الأمريكية الجديدة، بهدف السيطرة الكاملة على العالم، ويعتقدون أن الفرصة الآن سانحة تماما بعد تدمير الدول العربية الأساسية، وتحويل دول عربية أخرى إلى بقر حلوب تدر ضروعها في خزانات تحالف الشر الجديد. أما روسيا، ورغم خلافنا الشديد معها لأسباب عديدة، أهمها دعم الطغاة العرب، إلا أنها تستشعر الفخ الذي ينصب لها والحفر التي يعمل الغرب على زجها فيها، لقلع ما تبقى لها من أنياب بعدما طوقوها من كل جانب، ووقف الناتو على أبوابها من بوابة أوكرانيا، آخر مواقعها خارج حدودها. هذه هي الصورة التي تبلورت يوم الثلاثاء الماضي، والتي تذكرنا بأيام الحرب الباردة.
غزة والسقوط الأخلاقي لمجلس الأمن
ما حدث في غزة على مدى أسبوعين وسقوط عدد من الضحايا يزيد عن 30 شهيدا وأكثر من 2500 جريح، كشف عجز المجلس ورعونة موقف الولايات المتحدة التي منعت صدور بيان ناعم بسيط أعدته الكويت يقر بالحق بالتظاهر ويعبر عن القلق- فقط القلق- لوقوع ضحايا من المدنيين الذين يتظاهرون على أرضهم. في الجمعة الأولى سمح للمجلس بأن يجتمع، أما في الجمعة التالية فلم يسمح له حتى بأن يجتمع. عندما ترتكب إسرائيل مذبحة تتم حمايتها والتغطية عليها ويكرر المتكلمون الكلام الواحد وراء الآخر، خاصة بعض الأعضاء الجدد في المجلس المتزلفين للولايات المتحدة مثل البيرو وبولندا وهولندا. ضحايا الفلسطينيين ليست لهم قيمة عند هؤلاء وليسوا بحاجة إلى تحقيق دولي أو مستقل، لأن المجرم أصلا معروف ولا يخفي هويته أو سلاحه المغمس بالدم. إنه يشهر بندقيته التي يحملها قناص ويعلن سلفا أنه جاء ليقتل. ومع هذا يشيح المجلس بوجهه عن الضحايا، بل يضع اللوم عليهم لأنهم عرضو أمن الدولة للخطر. لا نفاق أقبح من هذا… لا يقولن أحد أنهم معنيون كثيرا بسقوط سبعين ضحية في دوما.
محاولة اغتيال العميل المزدوج سكريبال
تقول النظرية الكلاسيكية في محاولة التعرف على الجاني، في أي جريمة غامضة "إبحث عن المستفيد". وهذا سؤال أكثر من منطقي في محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرجي سكريبال هو وابنته يوليا في مدينة سالزبري، حيث يقيم منذ عام 2010 بهدوء بعدما سجنته روسيا بين عامي 2004 و2010 ثم أطلقت سراحه، بناء على برنامج تبادل العملاء، وسمحت له أن يغادر أراضيها ويستقر في بريطانيا. وبدأت ابنته يوليا تزوره بشكل طبيعي. يوم 4 مارس تعرض سكريبال وابنته إلى هجمة بغاز أعصاب قاتل اسمه "نوفوشيك"، نقل على أثره إلى المستشفى وكادت يوليا أن تموت، لكن في النهاية تعافى الوالد وابنته. الأمر المحير أن بريطانيا أعلنت فورا أن روسيا هي من قامت بالعملية بحجة واهية تدعي أن المادة الكيميائية كانت تصنع في الاتحاد السوفييتي سابقا، وأن المعامل ما زالت تنتجها. اعتبرت تيريزا ماي أن هذه المحاولة بمثابة إعلان حرب من روسيا على بريطانيا، وبدأت تهدد وتتوعد. دعت سفيرتهم الجديدة، كارن بيرس، إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن، الذي انصاع للأمر وعقد المجلس بدل الجلسة جلستين (13 مارس و5 أبريل). وراحت الدول الثلاث تنسق في ما بينها في تضخيم هذا الحادث، واعتباره تهديدا للأمن والسلم الدوليين، ويجب ألا يمر بدون عقاب. ولشدة المبالغة في تهديد السفيرة البريطانية اضطر السفير الروسي فاسايلي نيبنزيا لأن يقول لها: "إن بريطانيا تلعب بالنار وستأسف على ذلك".
عدة أسئلة أثارتها هذه الحادثة وليس لها جواب – لماذا تناقش "محاولة اغتيال شخص" في مجلس الأمن بينما لا يجد المجلس وقتا لمذابح الروهينغا، وتشريد الآلاف واغتصاب النساء وحرق الأطفال أحياء، وإدارة ظهر حكومة ميانمار للعالم؟ المجلس لم يتخذ أي قرار بخصوص مجازر الروهينغا، ولم يعقد إلا جلسة مشاورات مغلقة واحدة وأخرى مفتوحة وانتهى الأمر. ثم لماذا تحتاج روسيا أن تغتال من كان عميلا وكان في سجونها وأطلقته ولم يعد له أي قيمة ولا أحد يتذكره؟ وإذا كان خطيرا لماذا انتظرت ثماني سنوات؟ ولماذا لم تتقن العملية وتجهز عليه؟ روسيا الآن مقبلة على استضافة مباريات كأس العالم لكرة القدم بعد نحو شهرين فقط، فهل من المنطق أن تجر على نفسها مصيبة كهذه قد تؤدي بالعديد من الدول إلى مقاطعة المباريات، خاصة أن بوادر المقاطعة بدأت بآيسلند التي أعلنت أنها لن ترسل فريقها لمونديال موسكو. إذن لا بد أن يكون هدف هذه الدول الثلاث التي تتقاسم الأدوار أكبر من سكريبال وابنته يوليا.
دوما والسلاح الكيميائي مرة أخرى
هذا التباكي الغربي على ضحايا الهجوم الكيميائي الذي قيل إنه وقع مساء السبت الماضي على دوما مخلفا سبعين قتيلا ونحو 500 جريح لا يقنع أحدا أنه صادق. فمئات الألوف من الشعب السوري قضوا ليس بسبب الأسلحة الكيميائية، بل بالأسلحة التقليدية الأخرى كالطيران والبراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية. وقد وقع مؤخرا ضحايا أبرياء في مدينة دمشق نفسها، من قصف الميليشيات المسلحة التي صنفتها الأمم المتحدة بأنها إرهابية، بدون أن يذكرها أحد في كلماته ولو من باب حفظ ماء الوجه، وكأن السوري العادي إذا كان في دمشق يجوز قتله أما إذا كان تحت سيطرة "جيش الإسلام" فهو ضحية. ركزت كلمات الوفود الثلاثة على اتهام روسيا أكثر من الهجوم على النظام نفسه. توقيت الهجوم نفسه يثير التساؤل فقد وقع في الذكرى السنوية الأولى لهجوم خان شيخون، الذي استخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقصف قاعدة الشعيرات بـ59 صاروخا، لم تترك أي أثر بل أنقذت ترامب من ورطاته الداخلية وارتفاع شعبيته وخاصة لدى اليمين المتطرف.
وزارة الحرب التي شكلها ترامب الآن اكتملت، بعد إضافة بومبيو للخارجية وجون بولتون للأمن القومي. اليمين المتطرف لا يهمة مقتل 70 سوريا ولا يعنيه شيء إلا سلامة إسرائيل، وتحجيم روسيا وضربها على أنفها في سوريا، وإضعافها وتفكيك تحالفاتها الجديدة، خاصة بعد إعادة انتخاب بوتين. قامت إسرائيل بضرب مطار تي فور قرب حمص… لم يتطرق أي من المتحدثين إلى هذه الحادثة وكأنها لا تعني شيئا، فإسرائيل فقط مسموح لها أن تكون فوق القانون. وضعت الولايات المتحدة مشروع قرار لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، ليس للتأكد من استخدام السلاح الكيميائي، بل لمعرفة الفاعل الذي حدد سلفا بدون تحقيق. كانت السفيرة الأمريكية تعرف أن مشروعا قويا كهذا سيطيح به الفيتو، وهو بالضبط ما تريده هي وحليفتاها في المجلس. إنه المبرر الذي يبحثون عنه للقيام بضربة عسكرية كبيرة لن تؤثر كثيرا على نظام الأسد، بل ستلحق هزيمة معنوية بروسيا، أو جرها لمعركة محدودة لاختبار أسلحتها أو استعداداتها. روسيا من جهتها طرحت مشروعين مرة واحدة تفصل بين التحقيق في صدقية الهجوم والتحقيق فيمن هو الفاعل، وهي تعرف أن المشروعين لن يمرا بسبب تركيبة مجلس الأمن والعجز عن حصول الحد الأدنى من الأصوات المطلوبة لاعتماد القرار. وانتهى المجلس يوم الثلاثاء بالفشل في اعتماد أي من المشاريع الثلاثة فترك الباب مفتوحا لعمل خارج المجلس.
كل الأمور تسير الآن كما خططت لها الدول الثلاث. الفيتو الروسي الثاني عشر سيستخدم غطاء لعمل عسكري قد يكون كبيرا هذه المرة، ولكن ليس من أهدافه إنقاذ الشعب السوري بالتأكيد بعد كل هذا الدمار والخراب الذي لحق بسوريا الوطن وسوريا الشعب وسوريا التاريخ وسوريا الحضارة. هذا ما تريده إسرائيل. وهؤلاء هم طبعة جديدة من – سايكس بيكو وبلفور- الضحايا من العرب والمال من العرب والمسرح في أرض العرب. ولتتابع إسرائيل مجازرها في غزة على مرأى ومسمع من حلفائها العرب الجدد المعجبين بإنجازاتها والمتبرعين لها بفلسطين.
عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي