الطريقة التي تعاملت بها إسرائيل مع مسيرات العودة السلمية في غزة بارتكاب المجازر ضد النساء والأطفال والصحافيين بدون أي مبرر، تظهر بطريقة أوضح أن هذا الكيان لا يريد أن يتعامل مع الفلسطينيين إلا بالقتل والمجازر والاقتلاع والتخويف والتشريد.
هذا الكيان المدعوم من كل قوى الشر في العالم لا يريد للفلسطيني أن يقاوم، ولا أن يتظاهر، ولا أن يعمم ثقافة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (بي دي أس) ولا أن يعلم أطفاله أسماء مدنه وقراه الأصلية، التي اقتلعوا منها، ولا أن يغنى لعكا وحيفا والناصرة، ولا أن يرفع علما أو يجلس في مقعد دولي وأمامه يافطة فلسطين. باختصار يريد الأرض كلها بدون الشعب بكامله. يريد للأرض أن تنشق وتبلع الفلسطينيين جميعا، وهو ما لن يحدث. هذا الكيان لن يعطي للفلسطينيين دولة ولا نصف دولة، وأكثر ما يمكن أن يقدم للفلسطينيين نظام فصل عنصري دموي يضع الناس أمام ثلاثة خيارات: الموت أو الرحيل الأبدي أو العيش الذليل.
فمنذ وقعت القيادة الفلسطينية في الخطأ التاريخي عام 1974 باعتماد برنامج النقاط العشر، وحولت طبيعة الصراع مع الحركة الصهيونية، وقاعدتها المتقدمة في إسرائيل المدعومة من قوى الاستعمار والإمبريالية، والقضية الفلسطينية في تراجع متواصل في الأهداف وأساليب تحقيقها. فالسلطة الوطنية التي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني في مؤتمره الثاني عشر في القاهرة عام 1974، تغيرت مع الأيام إلى دولة مستقلة، أو مملكة متحدة وانتهت باتفاقية أوسلو الكارثية، التي فرطت في ثلاثة محرمات أساسية: وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة الهدف، تحت غطاء من الشعارات الخادعة مثل "السياسة فن الممكن"، ونظرية موازين القوى"، وشعار "يا وحدنا" و"القرار الوطني المستقل" وكلها لتبرير الطلاق مع مرحلة التحرير وفكرها وأدواتها والولوج في مرحلة التسوية بأدواتها الجديدة.
في مسلسل التراجع هذا عادت منظمة التحرير وانقضت على ميثاقها، وألغت أهدافها وقبلت بالقرارين 242 و 338 في مؤتمر الجزائر عام 1988. ولم تكتف بإدانة العنف والإرهاب، بل وقعت وثيقة الاعتراف المتبادل التي تنص على: "التخلي عن العنف والإرهاب" قابلة بذلك أن تصف الكفاح الشرعي للشعب الفلسطيني بأنه إرهاب ذميم. وبتوقيع اتفاقية أوسلو، تكون منظمة التحرير، أو للدقة القيادة المتنفذة في منظمة التحرير، قد نقلت نفسها ونقلت معها الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى ثورة مضادة انتهت بأن تصبح حارسة لأمن عدو الأمس، تنسق معه لاعتقال المناضلين وقتلهم وكتم أفواه الناس، وتنازلت عن المحرمات الثلاثة إلى أعداء الشعب الفلسطيني، وربطت الاقتصاد الفلسطيني بالمطلق بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي، كما هو معروف.
تحت غطاء المفاوضات والعملية السلمية تم الاستيلاء على الأرض ونهبها وتوسيع شبكة الاستيطان لتشمل كل أنحاء الضفة الغربية، وإقامة الجدار العازل، وتهويد القدس، وزج آلاف المناضلين في السجون، واقتحام المدن وقصفها بطائرات الـ( إف 16) وإعلان الحرب على قطاع غزة أربع مرات ثم حصاره لأكثر من 11 سنة وبمشاركة السلطة الفلسطينية. وانتهت الأمور الآن إلى وضع خطير يهدد الوجود الفلسطيني وقضيته المركزية في ظل خمسة تطورات خطيرة/ تتشابك معا لتفرز وضعا كارثيا على وشك أن يبدد كل تضحيات الشعب الفلسطيني: الانقسام الفلسطيني، التطبيع العربي مع الكيان، الحروب البينية في أكثر من دولة عربية، وجود إدارة أمريكية متطرفة في دعم إسرائيل، أكثر من العديد من القيادات الإسرائيلية، وأخيرا اتجاه كل المجتمع الإسرائيلي إلى التطرف وانتهاء أو تهميش دعاة السلام.
كيف الخروج من هذا المأزق الوجودي؟
ما أحوجنا جميعا الآن إلى إجراء مراجعة شاملة بعد مرور أكثر من قرن على كفاح الشعب الفلسطيني البطل ضد المشروع الصهيوني، وسبعة عقود على النكبة، وإقامة إسرائيل كدولة استعماريةٍ استيطانية عنصرية فوق جزء كبير من أرض فلسطين، وبعد أكثر من نصف قرن على انطلاق الحركة الوطنية المعاصرة، التي تمثلت في إنشاء منظمة التحرير عام 1964 وحركة فتح عام 1965، وما تبعها من فصائل مقاومة كلها ترفع شعار التحرير. لقد بات هذا الشعب في أمس الحاجة إلى إجراء هذه المراجعة النقدية لمسيرته النضالية عبر جميع مراحلها، حيث وصلت إلى طريق مسدود، كما بات بأمس الحاجة إلى صوغ رؤى وطنية، وإعادة بناء كياناته ومؤسساته السياسية، وانتهاج خيارات كفاحية، جديدة ومغايرة، قائمة على الواقعية والعقلانية، والتمسك بقيم الحرية والمساواة والعدالة، التي توازن بين الواقع والطموح، والإمكانيات والرغبات، والعاملين الداخلي والخارجي، بدون أن يجحف أحدهما بالآخر.
وسأطرح بعض الأفكار التي تبلورت في الآونة الأخيرة بشكل واسع، بين نخب الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، خاصة بعد ما قام به ترامب من إزاحة موضوعي القدس وحق العودة عن طاولة المفاوضات واقترابه من طرح صفقة القرن:
- من وجهة نظري أن نقطة الانطلاق يجب أن تكون استعادة طابع الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرر وطني، وتجديد حيويتها، بعد أن وصلت إلى حافة الهاوية والشيخوخة والتكلّس وتآكل الشرعية، ويشمل ذلك المنظمة والسلطة والفصائل والأحزاب السياسية والاتحادات الشعبية، إذ لا يمكن أن ندخل مرحلة نضال جديدة بوسائل قديمة ثبت عجزها مرارا وتكرارا.
- إعادة بناء منظمة التَّحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا في جميع أماكن وجوده، وذلك على أُسس وطنية تمثيلية شاملة، لا يستثنى منها أحد، ووفق معايير ديمقراطية وكفاحية، مستخدمة أسلوب الانتخابات حيثما أمكن، بعيداً عن ترتيبات المحاصصة الفَصائلية، والتوافقات الحزبية ومنطق "الكوتا".
- بذل أقصى الجهد من أجل إنجاز المصالحة الوطنية على أرضية برنامج نضالي واضح يجمع الكيان الفلسطيني الممزق بين الضفة الغربية وغزة والقدس، عبر الالتزام بمقتضيات المصالح الوطنية العليا، وتكريس العلاقات الديمقراطية في إطار العمل الوطني، باعتبار ذلك ضرورة وطنية ملحة لا تحتمل التأجيل.
- الفصل السياسي والإداري الشامل بين المنظمة والسلطة في ما يتعلق بالقيادة والمؤسسات، فقد أضر الدمج الحالي بكليهما، على نحو أضعف النظام السياسي القائم وحوله سلطة ضعيفة هشة تخضع للضغوط الإسرائيلية.
– تقتصر وظيفة السلطة على إدارة المجتمع، وتعزيز كياناته ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتنمية موارده البشرية والمادية، بشكل يؤمن متطلبات صموده، ويُنمي قدرته على مقاومة سياسات إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية العنصرية.
- اعتماد أساليب ناجعة لتعزيز التفاعل الخلاق والعمل المشترك بين تجمعات شعبنا، في جميع أماكن تواجده، في فلسطين التاريخية والضفة وغزة ومناطق اللجوء والشتات، لصوغ الأطر السياسية المشتركة، الأفضل للتعبير عن وحدته ووحدة قضية، ووحدة أهدافه وتناغم أشكال كفاحه، حسبما تسمح به ظروف كل تجمع.
- اعتماد جميع أشكال النضال الشعبي المتواصل والمتطور والخلاق ضد الاحتلال، باعتبار النضال الوطني الفلسطيني نضالا شاملا ومتكاملا يتحرك على محورين أساسين: مواجهة إسرائيل عبر التصدي الحازم لسياساتها الاستعمارية الاستيطانية والعنصرية؛ وبناء المجتمع الفلسطيني عبر إنهاض وعيه وتنمية موارده وتعزيز مقوِّمات صموده فوق أرض وطنه، والحرص الشَّديد على ألا يكون النضال في أحد المسارين على حساب الآخر. يجب ألا يكون الاحتلال مريحا ومربحا وقليل الكلفة وهذا يتطلب وقف عملية المفاوضات العبثية، والتخلص من علاقات التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتبعية الاقتصادية، على نحو مدروس وحازم.
– تكثيف الجهود على الصّعيدين العربي والدولي لتعزيز حركة التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني وتوسيع دائرة (البي دي إس) وفضح طابع دولة إسرائيل العنصري الاستعماري الاستيطاني؛ وتفكيك مفهوم الدولة الديمقراطية – اليهودية بوصفه مفهوماً عنصريا بامتياز؛ وتعزيز العمل في أوساط المجتمع اليهودي في إسرائيل والخارج لتنمية الاتجاهات الرافضة للصهيونية، ولإسرائيل الاستعمارية الاستيطانية العنصرية.
وسائل النضال الناجعة
إن النضال الشعبي بأساليبه الكفاحية المتعددة على نمط الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مثلاً، أو على نحو ما يجري اعتماده راهنا في القدس وغزة، هو الوسيلة الأنجع والأنسب والأكثر تأثيراً، لأنه يقوم على توظيف القدرات الذاتية لشعبنا، ويستند إلى خبرات تجربته الكفاحية، لاسيما أن هذا الشكل أثبت جدارته العالية، وإبداعيته وجدواه، عبر تفويته على إسرائيل إمكانية اقتناص أي فرصة لاستدراج شعبنا إلى خوض مواجهات تستخدم فيها قوتها العسكرية الغاشمة، لاستنزافه، وتقويض قدراته، أو لتزييف الحقائق أمام الرأي العام العالمي، لإضعاف حصانته الإنسانية والسياسية والاجتماعية، وعلى نحو ما جرى في تجارب سابقة. وهذا بالطبع لا يستثني وسائل النضال الأخرى التي اقرّتها الأعراف والقوانين الدولية، مع الأخذ بالحسبان خصوصيات الأجزاء المكونة لشعبنا الواحد.
المطلوب إذن خيار وطني يطابق بين قضية فلسطين وجغرافية فلسطين وشعب فلسطين، أو يصل إلى ذلك في نهاية المطاف، بحيث لا يختزل التحرير في جزء من الأرض، فقط، على أهمية ذلك، إذ يفترض أن يشمل هذا الأمر، أيضاً، تحرير الإنسان والصراع على الحقوق، أي الحقوق الفردية والوطنية، التي تتطلب تقويض المشروع الصهيوني، المبني على وجود دولة استعمارية استيطانية عنصرية، مع التأكيد أن الحل النهائي لن يتأتى إلا بهزيمة هذا المشروع، من خلال مشروع نهضوي تحرري إنساني ديمقراطي، يكون اليهود الإسرائيليون المعادون للصهيونية شركاء فيه، بدعم من القوى العربية والدولية، المؤيدة للحرية والعدالة والسلام. وذاك اليوم ليس ببعيد، إذا ما حزم الشعب الفلسطيني بغالبيته أمره ونفض عنه أوهام التسوية وسار في درب الكفاح الطويل الذي لابد أن يوصل إلى الحرية.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي