(اجعل رمضانك لغزة)..حاجة إنسانية تستوجب وحدة التضامن الخيري

بقلم: عصام يوسف

تختلط مشاعر أهالي غزة الثرية بالحس الديني عند قدوم شهر رمضان المبارك الذي ينتظره كل مسلم لاغتنام فرصة التقرب إلى الله، واحتساب أجره عند البارئ جل وعلا، بمشاعر الانقباض والتحسر نتيجة ما يعانيه ملايين الآلاف من ساكني القطاع بسبب عدم مقدرتهم على مجاراة طقوس الشهر الفضيل، حيث الحصار يعتصر القلوب والبطون في آن معاً.

وتجتهد العائلات الفقيرة في غزة بتوفير إفطارها وسحورها بشق الأنفس، سيما وأن مائدة الطعام لا بد أن تشمل الأطعمة الغنية بالتنوع ذو القيمة الغذائية العالية لكافة أفراد العائلة، خاصةً وأنها الوجبة الغذائية التي تأتي بعد ساعات طويلة من الامتناع عن الطعام والشراب، وهي الفريضة التي من المفترض أن يتساوى فيها الفقير والغني عند جوعه نهار رمضان، وعند إفطاره بالمفيد والمغذي من أطايب الطعام والشراب.

ومن خلال اطلاعي على ما يقاسي الأهالي في القطاع جراء توفير الطعام لأطفالهم في الشهر الفضيل، حيث يظهر البؤس في شكل ومحتوى مائدة الكثير منهم، حين تقتصر على الزعتر والشاي وبعض قطع الطماطم، أو بعضاً من الخبز والخضار المقلية.. وغير ذلك من وجبات غير رمضانية، فإن الفقر فيها سيد الموقف، والذي يتجاوز تأثيره في رمضان على نداء المعدة الفارغة ليصل إلى معتقدات وكيان الفقير النفسي والوجداني الذي يؤمن إيماناً لا يخالطه شك بأن شهر رمضان هو شهر الخير والرحمة وتمتين روابط التكافل والتكاتف بين المسلمين من أقصى الأرض إلى أقصاها.

من منا قد يخطر في باله وهو يجلس على مائدة طعامه في شهر رمضان بأن هنالك أسراً في غزة لجأت إلى الاستدانة لتوفير وجبة طعام تشبه ملامح وجبة إفطار رمضانية أو تدنو منها بقليل، وهذا ما يحدث فعلاً، وعلى أرض الواقع في القطاع الذي أنهك أهله الحصار الإسرائيلي الظالم، والذي يرسم خطاً بيانياً لتفاقم الفقر واستشراء البطالة والعوز، عبر توحشه في نهش إنسانية الإنسان في غزة منذ 12 عام.

ولا يمكن لمسلم على وجه البسيطة أن يستغرب محاولات الأسر الاستدانة من أجل وجبة طعام في شهر رمضان، فالأصل يكمن في كون رمضان شهر ذو مواصفات وسمات مختلفة عن غيره من شهور السنة، فهو يحمل ضمنياً بالإضافة لكرم الخالق في إسباغ رحمته وثوابه على المسلم العابد المثابر، اعتبارات كونه شهر النفوس المبتهجة بعطائه سبحانه وتعالى الذي يكون فيه المسلمون سبباً، واحداً منهم للآخر، وهذا ما يخلق لدى الغزيين، قلقاً وخوفاً من ابتداعهم للبهجة حين تتقطع بهم السبل، وتتملكهم خشية انقطاع القريب والبعيد عنهم، وتركهم فريسة للعوز والفقر، وصراع المفاهيم والمشاعر والانطباعات، حين تصل الأمور إلى محك المواقف في كيفية تعاطي المسلم مع الصورة التي تكون عليها حياة أخيه المسلم الفقير.

بالطبع، تتجاوز الصورة في شهر رمضان، اجتهاد المسلم في تحصيل ما أمكن من الأجر والثواب ليثقل بذلك كفة الحسنات في ميزانه، إلى تثبيت مفاهيم التراحم بين البشر، وإقناع المسلم الفقير بأنه ليس وحيداً في مواجهة عوزه واحتياجه المعيشي، وبأن الإسلام دين يفرض على المسلم تقديم يد العون لأخيه المسلم، والوقوف إلى جانبه في الملمات والشدائد، ومنها ملمة الفقر والجوع، ليصل الأمر إلى انتفاء صلة المسلم بعقيدته إن أدار ظهره لأخيه المسلم وتخلى عنه، وفي حديث نبي الرحمة ما يتضمن هذه المعاني، حين يقول (صلى الله عليه وسلم): "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".

فجحود المسلم تجاه جاره وأخيه الإنسان يوصله إلى حالة عدم اكتمال إيمانه، عندما يمتلئ قلبه من قسوة، وشح الأخلاق، وتدني المروءة، ودناءة الطبع، وهذا ما ليس في خلق المسلم، بل والإنسان الطبيعي الذي تحكمه الفطرة السليمة.

ولا بد للفقراء والمعوزين من إخواننا في قطاع غزة من نصيب من مساعداتنا ودعمنا الإنساني للأسر الفقيرة في شهر رمضان، في مختلف أنحاء العالم، بحيث يتناسب هذا الدعم مع حجم الحاجة، إضافة للتضحيات التي يقدمها الغزيون من أجل صمودهم في وجه جبروت وطغيان الاحتلال، في سبيل أن تبقى هامة الأمة مرفوعة، حيث باتت غزة واحدة من الحالات القليلة المضيئة في تاريخنا العربي والإسلامي المعاصر، في معركة التمسك بالكرامة والثوابت، التي تمس هوية وثقافة الأمة بأسرها.

وفي إطار ذلك، فإن حملة "اجعل رمضانك لغزة" تلخص هذه المعاني- سالفة الذكر- وهي الحملة التي نجدد فيها دعوتنا بأن تخصص حصة أكبر من الصدقات والزكاة للأسر الفقيرة في القطاع، لتمكينها من توفير طعامها بشكل يسير خلال الشهر المبارك، ولترتسم من خلال ذلك الفرحة على وجوه أطفال هذه الأسر، وما لذلك من أثر في إقناع هؤلاء الأطفال بأنه لن يكون هنالك حائل من استمتاعهم بلذة مذاق ما في الشهر الكريم من رحمة وبهجة ومغفرة، تعتري كل أفراد الأسرة المسلمة.

واقع حياة الغزيين اليوم يفرض تجديد الدعوة لتوسيع حملة "اجعل رمضانك لغزة"، وتعميقها، حيث الفاقة أكبر، مع استمرار الحصار وتشديده على أبناء القطاع، الذي باتت تطلق توصيفات على وضعه من جانب العديد من المسؤولين الدوليين المختصين تتراوح بين "المكان الذي لم يعد يصلح للعيش"، و"الكارثة الإنسانية"، و"الانفجار" الذي قد يقع في أية لحظة نتيجة خنق مليوني إنسان في سجن مفتوح، يسمح فيه السجان بإطعام المسجون بالـ"القطارة"، في سياسته التي يتبعها كي يصل به إلى حياة من الإذلال لا يريد له فيها أن يموت، أو أن يحيا.

والضرورات اليوم تستوجب تشكيل "وحدة تضامن خيري" لدعم فلسطين وشعبها، بما يشمل ذلك أبناء الضفة الغربية، ومدينة القدس، وقطاع غزة، وبذل جهود مضاعفة من جانب المؤسسات الخيرية، وعملها الدؤوب من أجل توحيد هذه الجهود لتقديم المساعدات الإنسانية، وإيصالها لمستحقيها بالشكل المناسب، ومن خلال التعاون مع المؤسسات والجمعيات الخيرية العاملة في القطاع، لتقديم أفضل النتائج المرجوة عبر تنفيذ المشروعات الإنسانية في القطاع خلال الشهر الكريم.

فهذا الواقع في غزة والضفة الغربية والداخل ليس جديدا،، لكنه قد يكون الأسوأ في ظل سنوات الاحتلال والحصار.. فغزة تعيش أصعب أزمات اقتصادية ومعيشية في ظل تواصل الحصار وتشديده في كافة القطاعات، وازمة تاخر رواتب السلطة، واستمرار عدم تقاضي موظفي الحكومة في غزة رواتبهم سوى دفعات مالية غير منتظمة لا تكفي ولا تسد احتياجاتهم وأبنائهم وعوائلهم.

الصورة في فلسطين وخاصة كارثية ومأساوية وصعبة ولا يمكن اختصارها في مقال هنا وصورة هناك.. الوضع يتطلب عملا خيريا غير منقطع يوازي الحالة الصعبة والفقر المدقع التي يحياه اكثر من 80‎%‎ من سكان قطاع غزة.

 

بقلم: الدكتور عصام يوسف

رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة