القدس ليست مدينة ككل المدن، هذه المدينة حظيت بما لا تحظى بها أي مدينة على وجه الكرة الأرضية عبر التاريخ القديم والحديث، لن أتكلم عن مكانتها الدينية فهي معروفة للجميع نصارى ومسلمين، للإجابة على السؤال الذي يتصدر العنوان، علينا أن ننظر للقدس عبر التاريخ، وعبر الصراعات الكونية التي شهدها العالم منذ الأزل إلى الآن، لقد مثلت السيطرة على مدينة القدس من قبل الإمبراطوريات عبر التاريخ رمزاً للعزة والسيادة والسيطرة الكونية، من إمبراطوريات الإغريق القديمة والفرس القدماء إلى الرومان، لم تكتمل لهم السيادة والهيمنة والسيطرة على العالم القديم إلا بالسيطرة على القدس وحكمها، لذا فإن القدس تمنح حاكمها ميزة لا يتوفر عليها غيره، ومؤشر على عظمة حاكمها وسيدها، فهي تستهدف لذاتها ولما تمثله إتجاه المنطقة العربية من جهة ولما تمثله تجاه العالم القديم والجديد على السواء.
القدس لم تكن محررة إلا عندما تكون المنطقة العربية ناهضة ومتقدمة وسيدة، وبالتالي تكون محتلة وخاضعة للأجنبي ولذوي الطموح العالمي والكوني من القوى الإستعمارية عبر التاريخ كما أسلفنا، إذن احتلت القدس في عصرنا على مرحلتين الأولى عام 1948م أحتل الجزء الحديث والغربي منها، واكتمل إحتلالها حيث أحتل الجزء الشرقي والقديم والذي يحتوي المقدسات الإسلامية والمسيحية من الأقصى المبارك وكنيسة القيامة وغيرهن من المقدسات في حزيران من العام 1967م حيث أكمل الكيان الصهيوني إحتلال فلسطين من نهرها إلى بحرها، طبعاً بدعم وتخطيط وتأييد من قوى الإستعمار الغربي الحديث.
اليوم وبعد سبعون عاماً على نكبة فلسطين الأولى وخمسون عاماً على النكسة تُقدِم الولايات المتحدة برئاسة رئيسها ترامب المنفلت من عقاله، على تنفيذ قراره بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ليؤكد أن أمريكا سيدة العالم، وأن الكيان الصهيوني هو أداتها في إحكام القبضة على القدس وعلى فلسطين وبالتالي على المنطقة العربية، ويؤكد على أن الأمة العربية مسلميها ومسيحييها لا وزن لهم ولا إعتبار، فالعرب باتوا لا معنى قانوني ولا سياسي لهم، فهم مجرد مجموعة بشرية لا طعم لها ولا لون ولا قيمة سياسية أو قانونية أو معنوية، فالعروبة مفهوم إجتماعي يدل على مجموعة بشرية متردية لا حول لها ولا قوة، ولا أثر ولا تأثير في صناعة الحياة أو في صناعة الحرب والسلام، الإدارة الأمريكية وكيانها الصهيوني بهذا الفعل، يكشفون عن حقيقة هذه الحالة البائسة للعرب وللمنطقة، وتمثل هذه الخطوة تحدٍ سافر لهم لم يسبق لها مثيل منذ وقعت فلسطين تحت الإنتداب البريطاني وما تلاه من إغتصابها من قبل المستعمرين الصهاينة عامي 48 / 67 من القرن الماضي.
فرغم قواعد القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وأخص القرار 242 وغيره من قرارات الجمعية العامة، وقرارات المنظمات الدولية العامة والمتخصصة، الدولية والقارية المختلفة، التي أكدت جميعها على إعتبار القدس الشرقية أرض عربية فلسطينية محتلة يجب إنهاء إحتلالها من قبل (إسرائيل) وتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير والعودة وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، يأتي إستمرار الإحتلال ( الإسرائيلي) لها وتتويجه بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليضرب بعرض الحائط بكل هذه القرارات الدولية وبقواعد القانون الدولي التي لا تجيز ضم أراضي الغير بالقوة، كما لا تجيز لأي دولة أن تقيم منشآتها على أراضي محتلة أو تنقل جزء من سكانها للسكن والإقامة فيها، فما بالك أن تقيم الدولة العظمى الأولى الولايات المتحدة سفارتها فيها وتقرر وضع هذه المدينة المحتلة وتعتبرها عاصمة لكيان الإحتلال ...!!!
هل هناك منطق أكثر وقاحة وصفاقة وإمبراطورية شريرة، أكثر من هذا المنطق والموقف الذي تقدم عليه إدارة الولايات المتحدة ورئيسها المنفلت من قيود القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ويتخذها مقراً لسفارة بلاده وعاصمة لكيان الإحتلال، ويتحدى العالم أجمع وفي مقدمته أهل القدس وشعب فلسطين صاحب الحق والولاية والسيادة على مدينته القدس وعلى وطنه فلسطين، ويتحدى العرب مسلميهم ومسيحييهم على السواء.
لقد عبر الفلسطينيون وأهل القدس عن رفضهم المطلق لهذا الموقف والقرار الأمريكي الصهيوني، ومنذ أن أعلن الرئيس ترامب عن قراره هذا في السادس من ديسمبر2017م، قدم الشعب الفلسطيني أكثر من مائة وعشرين شهيداً وآلاف الجرحى والمعتقلين، في تعبيرهم عن رفض هذه الخطوة المجنونة، كما رفضت الدول العربية ممثلة في قمة الظهران (قمة القدس) هذه الخطوة وكذلك منظمة التعاون الإسلامي في قمة إستنبول، والعديد من المنظمات الدولية والقارية ومجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، لهذا القرار.
المطلوب عربياً تفعيل القرارات العربية والمتخذة على مستوى القمم منذ عام 1980م والتي تقول أن أي دولة تنقل سفارتها إلى القدس تقطع العلاقات العربية معها ...!!
هل الدول العربية ستقدم على مثل هذه الخطوة، إلتزاماً بقرارات القمم العربية السابقة، إن الولايات المتحدة ما كان لها أن تقدم على هذا التحدي السافر للعرب وللعالم، لو علمت أن الدول العربية سوف تنفذ قرارات قممها بقطع العلاقات مع الدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس العربية .. لذا أقدمت على ما أقدمت عليه دون خوف أو خجل من هذه الخطوة، بل وبكل وقاحة تصرح الخارجية الأمريكية أن هذه الخطوة سوف تفتح الباب بل وستسرع عملية المفاوضات والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين..!!
نعم إنه العصر الأمريكي الإمبراطوري، وعصر الإذعان والغياب والتوهان العربي، لدرجة الهوان، بل أكثر من ذلك، نجد من بين من يدعون أنهم من الصفوة العربية (المهزومة والمذعنة) للتغول الأمريكي الصهيوني، يعلنون أن القدس (قضية من لا قضية له) وفلسطين لم تَعُدْ تعنيهم، ولديهم من القضايا الوطنية ما يشغلهم ويغنيهم أكثر من القدس وفلسطين ... بل ولديهم أعداء يتقدمون على عدائهم للكيان الصهيوني ...!!
أهل القدس (المقادسة) وشعبهم الفلسطيني الصامد لم يقصروا في حق الدفاع عن مدينتهم ووطنهم، متمسكون بها، وسيستمرون في تسطير أجلى وأبهى صور الدفاع عنها والصمود في وجه هذه الغطرسة العنصرية الفاشية الصهيوأمريكية، ولن يستسلموا لهذه الرغبات الإمبراطورية الإستعمارية، وهم يدركون أن هذا الهوان العربي لن يستمر كثيراً، وستنهض الأمة العربية من أوحال الفرقة ودياجير الظلام، وسيلتحق العرب مسلميهم ومسيحييهم بأشقاءهم في بيت المقدس يذودون عن القدس وفلسطين، وأكناف بيت المقدس، وعندها ينتهي أمد الإحتلال ويزول البغي والظلم، وتعود القدس عاصمة لدولة فلسطين العربية المستقلة، شاء من شاء وأبى من أبى ..
نخلص إلى حقيقة لا يجافيها الواقع والتاريخ، تقول من يكسب القدس يكسب فلسطين، ومن يكسب فلسطين يصبح سيد المنطقة بل وسيد العالم، لهذا تنقل الولايات المتحدة اليوم 14 / أيار / 2018م سفارتها إلى القدس العربية المحتلة، فهل يدرك العرب هذه الحقيقة وهذا المعنى من هذا التحدي السافر لهم من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، اللهم أشهد أني قد بلغت ...
(إصبروا وصابروا ورابطوا لعلكم تفلحون) .. صدق الله العظيم.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس