مُنذ أوَائل شَهر فِبراير واستعدَادًا ليَوم الأرض، كَانت الأُطرُوحات القَديمة الجَديدة تُراود الشّعب الفِلسطيني باجتِياح الحُدود سِلميًا ومَدنيًا، هِي نَفس تِلك الفِكرة التي طَرحَتها هِيلاري كلِينتُون عَلى نَاتنياهُو عِندمَا طَالبَته بوَقف الإستِيطَان وإفسَاح الطّريق أمَام المُفاوضَات، حِينها قَالت كلِينتُون إذا مَا فكّر الفِلسطينيّون باجتيَاح الحُدود مَدنيًا رافِعين الأعلَام البيضَاء، كَيف ستتصرّفون أمَام العَالم، وكَم ستقتُلون مِن الفِلسطينيين المَدنيّين، وعِندها إسرائيل ستخسَر ولن يُفيدها مُفاعل ديمُونا وغيرُه مِن الأسلِحة، قد تكُون تِلك المقُولة قَد شجّعت الكَثير مِن الشّعب الفِلسطيني أن يُحاول أن ينفّذ الفِكرة بَعد أن أصبَح مِن الصّعب تحقِيق أيّ إنجَازات بِواسِطة السّلوك العَسكري والقِتالي (المُقاومة)، وبَعد أن انتهَج النّظام الرّسمي الفِلسطيني سُلوك المُقاومة السّلمية والتي سمّوها فِي المُؤتمر السّادس (الذّكية)، عِلمًا بأنّ تِلك المُقاومة الذّكية أو السّلمية لم نَراها فِي الضّفة الغَربية وان فكّر مِئات الأشخَاص بالتّوجه نَحو الحَواجِز الإسرائيلية ستَجد أمَامهم قُوات الأمن الفِلسطينية تمنعُهم مِن حَالة الإشتِباك، بالإضَافة إلى مُلاحقة النّشطَاء، أذكُر حِينما أعلَن ترامب قَراره بنَقل السّفارة الأمريكيّة إلى القُدس، وكَانت هُناك دَعوة مِن القُوى الوَطنية والإسلاميّة لاحدَاث حَالة مِن الامتِعاظ والتّنديد بهَذا القَرار، لم يتجمّع فِي مَيدان الَمنارة فِي رَام الله اكثر مِن 100 شَخص عَاشقي الصّور الفُوتوغرافية والاستعرَاض.
فِكرة مَسيرة العَودة التي كَما تمّ طَرحها لتنفِيذها عَمليًا عَلى الأرض، والتي تبدَأ مِن يَوم الأرض إلى 15 أيار في ذِكرى النّكبة، عُنوان كَبير لم يُفكّر مَن استخدمُوه إعلاميًا وبَعض القّادة مِن الفَصَائل كَيف يُمكن أن يُحقّقوا نتائِج لهَذا العُنوان الكَبير (مَسيرة العَودة الكُبرى) حَيث ردّد المُواطن العَادي بل بعَض السّياسيين والقَادة بأنّهم فِي يَوم 15 أيار سيكُونون مُحرّرين لأرَاضي غِلاف غَزة، خَطأ كَبير وجَسيم إعلاميًا، فَكان يُمكن أن نُحافظ عَلى قُوة طَرحنا الوَطني حِينما نقُول أنّ يَوم 15 أيار هُو تثبيِت التمسّك بحقّ العَودة بالإضَافة إلى تحرِيك بَعض الأورَاق السّياسيّة ومِن أهمّها فكّ الحِصَار عَن قِطاع غزّة، أمّا السّلمية فِي المُظاهرة التي تمّ طَرحها، فَقد تجوازَتها الأحدَاث طِوال الاعدَاد لتِلك المَسيرة الكُبرى التي كَانت باكُورتها يَوم 14 مايو، فقَد سَقط العَديد مِن الشّهداء والجَرحى وان كَانت المَذبحة الكُبرى كَانت يَوم 14 مَايو حَيث سَقط ما يُقارب مِن 61 شَهيد و2400 وَجريح. مِن الأخطَاء التي رَافقَت هَذا الطّرح أنّ المُعدّين لهذِه المَسيرة وإن كَانت واجِهتُها لجنَة وطنيّة، ولكِن مكَامن الفِعل لحَركة حَماس لم تستطِع حَشد الكمّ المُؤثر الذي يُمكن أن يجنِي نتائج وهِي ترتكِز عَلى الحَالة التّعبوية للشّعب الفِلسطيني، فكَان مِن المفرُوض أن يحتشِد على حُدود قِطاع غزّة أكثَر مِن نِصف مليُون مُواطن فِلسطيني فِي مَسيرة مُنضبِطة تمنَع سُقوط ضَحايا، ولكن تُعبّر عَن حَالة التمرّد للشّعب الفِلسطيني، فِي حِين لم يستطِيعوا حَسم هَذا الحَشد بأكثَر مِن 80 ألف أو أقلّ، وهَذا في أحسَن تقدِير، وهَذه نُقطة فَشل، لم يكُن هَذا اليَوم لمَسيرة العَودة الكُبرى كمَا صوّروها فِي تنسيِق مَع كُل أمَاكن تواجُد الشّعب الفِلسطِيني، سَواء في لِبنان أو الضّفة أو الأردُن أو سُوريا، وهَذه نُقطة فَشل أُخرى، فالنّظام السّياسي الفِلسطيني الذي يتذرّع ويبرّر ويُعلل تجرّد مِن المسؤُولية الفِعلية لهذِه المَسيرة في حِين أنّ الفصَائل التي كَانت تقُود تِلك المَسيرة لم تستطِع إيجَاد قِيادة مُوحّدة فِي كُل السّاحات لإحداث فِعل أكبَر ومُؤثر إقليميًا ودوليًا، وبقي الحَال عَلى أن تقَع كُل المسؤُولية عَلى أهَالي قِطاع غزّة المُحاصرين الفُقراء لإحياء هَذا اليَوم وليدفعُوا ضَريبة إحيَاء ذِكرى النّكبة بالكَم الكَبير مِن الشّهداء.
مَسِيرة العَودة الكُبرى كَما أعلنُوا عَنها لم يكُن هُناك قَرار ولا حَشد كَافي لاجتِياز السّلك الشّائك، وبالتّالي نُقطة الإخفَاق أيضًا في الإعدَاد لتِلك المَسيرة أنّه تمّ تَحدِيد نِقاط الإشتِباك مَع الإحتِلال ممّا دَفع الإحتِلال لتجهِيز نَفسه قَبل البِدء فِي فعَاليات تِلك المَسيرة ولاحدَاث أكبَر خَسائر، فكَان مِن المفرُوض أن لا تُحدد نِقاط ارتكَاز للجَماهير الفِلسطينية عَلى طُول الحُدود مع الاحتِلال، وهَذا ينُم عَلى أن تِلك المَسيرة كَان توجّهها هُو تحِريك قَضية الحِصار وتحرِيك القضيّة الفِلسطينية عَلى المُستوى الدّولي والإقليمي ومُحاولة فَرض وَرقة سِياسية جَديدة لفك الحِصار عَلى قِطاع غزّة، وهُنا نقُول أنّ تِلك المَسيرة قد نجَحت بكُل مَا دَفعت مِن الشّهداء بتحرِيك مِلف القَضية الفلسطينية دَوليًا وإقليميًا، ولم تنجَح للآن فِي فكّ الحِصار، بل بَعض المُبادرات الإقلِيمية طَرحت حُلولًا مُتواضعة لفُتح مَعابر غزّة وزِيادة خَط الصّيد البَحري، أتذكّر فِي ذلك نتائج حَرب 2014 التي صَمد فِيها المُقاتل الفلِسطيني وحقّق نَتائج تُرضي الشّعب الفِلسطيني رَغم الخَسائر البَاهظة أيضًا، ولكِن عَلى الصّعيد السّياسي فَشل الفِلسطينيون فِي تَحقيق نَتائج سِياسية ملمُوسة نَحو حُلول واضِحة لقطَاع غزّة وتعِديل مَسارات القضيّة الفِلسطينية، بل ازدَاد الحِصار عَلى قِطاع غزّة بشَكل أكثَر إيلامًا مَع وُجود طَرح مَا يُسمى صَفقة القَرن وقَرارات عبّاس العِقابية أيضًا التي تدعُونا للشّك بأنّ هُناك أطرَاف فِلسطينية تعمَل عَلى تطبيِق تِلك الصّفقة التي كَانت باكُورتها نَقل السّفارة الاسرَائيلية إلى القُدس وتصرِيح كوشنير بأنّ إسرَائيل مسؤُولة عَن المُقدسات فِي تِلك المَدينة.
بِلا شَك أن حَركة النّضال الفِلسطيني هِي ترَاكمية ومِن الطّبيعي أن يسقُط الشُهداء ولا نَستطيع أن نُحدد نِقاط النّصر أو الهَزيمة فِي تِلك المُواجهة التّاريخية التي امتدّت لعُقود وستمتدّ عُقود أخرى بل هِي حَركة مُتواصِلة مِن العَطاء والتّضحيات التي يجِب أن يدفعها الشّعب الفِلسطيني لتحرِير أرضِه ونَيل حُريته، ولكِن هَذا لا يمنَع فِي بَعض المَحطات أن نسلُك كُل الطّرق إلى أن وَصلنا إلى المُقاومة السّلمية التي عَجزنا عَن استخدَامها بشَكل جَيد مِما أثار عِدة تساؤُلات فِي الشّارع الفِلسطيني، مَاذا جَنينا بَعد هَذا العَدد الكَبير مِن الشّهداء والجَرحى؟ ولكِن الحاَلة الِفلسطينية فِي تَناقض مَع ذَاتها، عِندما كَانت هُناك مُواجهة فِي 2008 و2012 و2014 تحرّك طَابور كَبير ليقُول مَاذا فَعلت الصّواريخ العَبثية، تِلك الصّواريخ التي لا تُحقق أيّ نَتائج، هُم نَفس الفِئة التي تُردّد الآن لِماذا لَم تَستخدِم فَصائل المُقاومة قُواتها وصَوارِيخها لحِماية المُتظاهرين وتقلِيل الخَسائر عَلى الأقل واحدَاث توَازن مَعنوي لدَى المُواطن الفِلسطيني لسُقوط قَتلى في الجَانب الاسرَائيلي للحِفاظ عَلى الحَالة المَعنوية، أعتقِد أنّ خِيارات الحَرب الآن خِيارات صَعبة، لمَا يُمكن أن تَجنيه مِن ضَحايا أكثر، ولكِن مِن المُهم أن نُعدّل مَسارنا الإعلامِي والخطابي لنقُول أنّ هَذا التحرّك هُو تحرّك لفَك الحِصار لتذكيِر العَالم بيَوم نَكبة الشّعب الفِلسطيني واسقَاط كُل المشَاريع الاقليميّة والدّولية التي تستهدِف جُغرافيّتنا ووِحدة شَعبنا، فغزّة تُريد الحَياة والإسرائِيليين اعتبرُوا مَسيرة العَودة هِي إيقاظ لأسَاسيّات المُشكِلة وتَهدِيد مَعنوي وتَاريخي لوُجُودهم ولذلِك يُطالبون بالهُدوء، كَما هِي الدّول الإقلِيمية، قَرار الحَرب اذا فُرض فَعلى الشّعب الفِلسطيني أن يُواجهه أمَا إذا كَان هُناك إمكانيّة للحِفاظ عَلى الذّات وضِمن مَسيرات تجُوب قِطاع غزّة وعَلى الحُدود بشَكل مُنضبط فقَد تعُطي نَفس الرّسالة التّي يُمكن أن نأخُذها بدُون ضَحايا، هَذا هُو الواقِع وهَذه هِي الأخطَاء، أمّا الانجَازات أو المَكاسب فَهي فقَط تَحريك مِلف القَضية الفِلسطينية وقَضية حِصار غزّة وهِي تبويب لعَمل أكثَر نُضوجًا فِي مَسيرة التّحرير.
بقلم/ سميح خلف