النكبة والبعد الديمغرافي في الصراع

بقلم: رامز مصطفى

على مدار 70 عاماً من عمر نكبة الشعب الفلسطيني ، أخذ الصراع أشكالاً وأبعاداً مختلفة مع الكيان الصهيوني ، ولعلّ من بين الأسلحة المستخدمة في هذا الصراع الذي يديره الفلسطينيون ، سلاحاً لطالما لا يزال يُقلق قادة الكيان يخشونه وقد يسلكون كل الدروب والطرق من أجل محاصرته ومن ثم القضاء عليه ، وهو سلاح الديمغرافيا الذي يحسب له العدو ألف حساب ، وعند مخاطره التقى كل غلاة الكيان من ساسة وقادة وزعماء ومفكرين وكتاب وإعلاميين وصحفيين ومتدينين ، حيث اجمعوا على ضرورة العمل سريعاً لكي يكون الكيان دولة يهودية خالصة لا تنغصها أية أقليات قومية والمقصود هم الفلسطينيون على أرض فلسطين التاريخية .
منذ أن وقع الاختيار على فلسطين وطناً قومياً لليهود حسب توصيف وعد بلفور العام 1917 . حدد تيودور هرتزل بجلاء في المؤتمر الصهيوني الأول العام 1897 هدف حركته وهو أن تنشئ كيانها على حساب الحقوق الثابتة والتاريخية للشعب الفلسطيني ، فحدد وبكلمات قليلة وبمدلولات كبيرة وخطيرة فكرة " أرض بلا شعب ، لشعب بدون أرض " ، فقد روج لهذه الفكرة في المحافل اليهودية ومن ثم الأوربية وهو من أجل ذلك عرض على السلطان عبد الحميد صفقة مالية بقوله ( فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يمكننا أن ننساه ، لو يمنحنا السلطان فلسطين فإننا نأخذ على أنفسنا إدارة مالية تركية مقابل ذلك ) . وهرتزل يدرك جيداً أن وطناً لليهود لا يمكن أن يتحقق من دون التخلص من الفلسطينيين وطردهم ، بل واقتلاعهم نهائياً من أرضهم ، ففكرة الترحيل كانت على الدوام حاضرة في البرامج والخطط التي عملت بموجبها كل الحكومات في الكيان ، وأستطيع الإدعاء والتأكيد أن ترحيل الفلسطينيين يمثل نقطة الإلتقاء بين كل مكونات هذا الكيان الهجين ، لأن هذه المكونات تُدرك وتستشعر الخطر القادم ولو بعد سنوات ، ألا وهو العامل الديمغرافي الذي يتهدد مستقبل بقاء الكيان ، ويطرح تحدياً جدياً أمام الصهاينة ، فقد احتل الخطر الديمغرافي الفلسطيني مكانة بارزة في الخطاب الصهيوني منذ نشأة الحركة الصهيونية كما أسلفت فمقولة " الوطن بلا شعب ، لشعب بلا وطن " تجسيد واقعي لخطط الحركة الصهيونية لهذا الخطر .
لذلك عملت الحركة الصهيونية على الدعوة من أجل تكاتف اليهود في العمل من أجل الخلاص ، والخلاص بمفهومهم يتم في أرض الآباء والأجداد ألاّ وهي أرض ( إسرائيل ) خالية وخاوية من البشر وتنتظر اليهود ليُعيدوا لها الحياة بواسطة الاستيطان . وقد كتب حاييم وايزمن بما يعزز فكرة هرتزل قائلاً ( هناك بلد صدف أن اسمه فلسطين ، بلد بلا شعب ، ومن ناحية أخرى يوجد هناك الشعب اليهودي وهو بلا أرض ، فأي شيء يبدو أكثر ضرورة من إيجاد الجوهرة المناسبة للخاتم المناسب لتوحيد هذا الشعب مع ذلك الوطن )
وقد منح ديفيد بن غوريون فكرة الترحيل دفعة أعمق حين قال ( إن الترانسفير الإجباري للعرب من الدولة اليهودية المقترحة يمكن له أن يمنحنا شيئاً لم نحصل عليه من قبل ، منطقة حرة من العرب ) ، وأضاف ( علينا أن نطرد العرب ونأخذ أماكنهم ، وإن كان علينا استخدام العنف لضمان حقنا فيجب أن نلجأ لتكون لنا قوة ) .
لذلك حدد قادة الحركة الصهيونية أن صراعهم مع العرب الفلسطينيين هو صراع على الأرض والسكان ، وكان ولا يزال هدف الكيان الصهيوني الإستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين واستعمارها بأكبر عدد ممكن من المستوطنين اليهود القادمين من موجات المهاجرين . ولم تتمكن الحركة الصهيونية من إعلان الدولة إلاّ بعد أن اكتمل العدد الذي يؤهلهم لذلك ، ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض ، وأخذ شكل الصراع الجغرافي الديمغرافي في محاولة ليثبت الصهاينة ما ادعوه أن فلسطين " أرض بلا شعب ، لشعب بلا وطن " .
كثيرة هي الدراسات والكتابات والأفكار التي ساقها هؤلاء الصهاينة من أجل خدمة فكرة الوطن القومي والدولة اليهودية النقية العرق ، ولأجل ذلك شُكلت العديد من اللجان في العام 1948 لبحث قضية الترحيل والأكثر نشاطاً في هذا المجال " يوسف فايتس " مدير دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي ورئيس لجنة الترانسفير حين قال ( يجب أن يكون واضحاً لنا أنه لا مكان في هذه البلاد لشعبين معاً ) .
وعشية صدور قرار التقسيم 181 في 29 تشرين الثاني من العام 1947 ، كانت خطة دالت لطرد الفلسطينيين وترحليهم قد استكملت ومخلصها ( الإسراع في طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ، وشكلت مجمل الرؤية التوسعية للصهيونية من حيث شموليتها في تصفية الوجود الفلسطيني ) وهدفت إلى ( تنفيذ تطهير عرقي وترحليهم ) ، وكانت هذه الخطة السبب المركزي في تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين وسقوط قراهم ومدنهم بيد الصهاينة في العام 1948 .
لقد لجأ الصهاينة إلى عمليات الطرد والترحيل على مرحلتين مفصليتين في العام 1948 والعام 1967 ، وبنتيجته أصبح خارج حدود الوطن ما يزيد على 750 ألف فلسطيني بالإضافة إلى ما يقارب 250 ألف فقدوا أملاكهم بحكم قانون جائر اسمه " قانون الحاضر الغائب " للملاك الغائبين ، والذي ينص أن كل من لا يتواجد بتاريخ معين ضمن حدود دولته " إسرائيل " يفقد أملاكه . إلاّ أن ذلك لم يحل المشكل والمأزق التاريخي للحركة الصهيونية ، فالفلسطينيين يتزايد عددهم ليصبح ( 1796000 ) آواخر العام 2016 ، ليمثلوا 20.8% داخل الكيان بحسب مركز الاحصاء " الإسرائيلي " . وقد خرج رئيس هيئة الأمن القومي الجنرال " غيورا بلاند " ليعلن أن اليهود سيفقدون الأغلبية ، وهذا ما ذهب إليه الكاتب " شلومو أفنيري " ليحذر من أن الخطر الديمغرافي قد يؤدي في المستقبل إلى المطالبة الفلسطينيين إذا أصبحوا أكثرية بتغيير اسم الدولة من " إسرائيل " إلى فلسطين . واليوم تؤكد مراكز الدراسات والهيئات المعنية بالتعداد والإحصاء السكاني أنه في العام الحالي 2018 ستتساوى أعداد الفلسطينيين مع أعداد المستوطنيين الصهاينة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة .
إنّ استكمال مسلسل ترحيل الفلسطينيين عن أرضهم ، استوجب أن يشن الكيان " الإسراائيلي " حرباً على سورية ومصر والأردن في العام 1967 ، ويحتل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، حيث برزت منظمات صهيونية تدعو إلى التطهير العرقي بحق الفلسطينيين في الضفة والقطاع ، مما سمح بتفشي فكرة ترحيل الفلسطينيين من مناطق العام 1948 إلى الضفة والقطاع سواء كان عنوة أو طواعية مع إمكانية لتبادل الأراضي تعديلاً لما يسمى بالحدود خصوصاً بعد التوقيع على اتفاقات " أوسلو " بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني في العام 1993 .
وفي هذا السياق من المفيد إلقاء الضوء على التوجهات التي انقسم حولها العديد من القادة الصهاينة وأصحاب الرأي والفكر ومراكز القوى الحزبية والدينية التي وإن التفت حول توجهات ثلاثة إلاّ أنها التقت عند نقطة واحدة مثلت تطلع استراتيجي بالنسبة إلى مستقبل الكيان واستمراره وهذه النقطة طرد وترحيل الفلسطينيين :-
التوجه الأول يدعو إلى ضمان أغلبية يهودية بالدولة العبرية عبر مبادلة سكانية مشروطة بالتوافق
التوجه الثاني ويدعو إلى مبادلة منطقة المثلث ( وادي عارة 300 ألف فلسطيني ) بالكتل الاستيطانية لاعتبارات ديمغرافية
التوجه الثالث ويدعو إلى فرض الترحيل ولو بالقوة تحت حجة أن الأقلية القومية تشكل في إسرائيل خطراً وجودياً
ومن استعراض لعينة من الأسماء الصهيونية المعروفة بعدائها المفرط للعرب والفلسطينيين نجد أن غالبتهم يمثلون التوجه الثالث وهم أي قبل موتهم " مئير كاهانا زعيم منظمة كاخ ، ورحبعام زئيفي زعيم حركة موليدت " – وراهناً " ليبرمان زعيم حركة إسرائيل بيتنا - وعضو الكنيست إرييه إلداد - والجنرال إيفي إيتام - وباروخ مارزل - والبروفيسور أرنون سوفير ، الذي يقلقه رحم السيدة الفلسطينية ويقض مضجعه ليل نهار كما يقول - والحاخامات إليعازر ملاميد ويوأب شوريك وشلومو أفنير " .
أما الأحزاب الصهيونية الكبرى داخل الكيان " الليكود - كاديما - العمل - المفدال " إذا ما استثني حزب " ميرتس " ليست بعيدة عن أفكار الترحيل القسري للفلسطينيين ، أو وفق خطة سياسية تفاوضية تفضي إلى الموافقة على تبادل للأراضي والسكان بحيث يمني القادة الصهاينة أنفسهم ونتيجة الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية على السلطة برئاسة السيد محمود عباس ، بالإضافة إلى فرض الوقائع الميدانية عبر المستوطنات وجدار العزل العنصري وتهويد القدس ، أن تستجيب السلطة الفلسطينية التي أبدت في أكثر من مناسبة استعدادها لذلك ، وما سرب في وثائق ويكيلكس حول حجم التنازلات التي أقدم عليها مفاوضو السلطة ورئيسها يكشف بالوقائع كيف يسعى الكيان وحكومته للإفلات من القادم مستقبلاً فيما يتعلق بالقنبلة السكانية الفلسطينية .
لقد عمل القادة الصهاينة ولا يزالون من أجل الحؤول دون وقوع المحظور والذي سيكون بمثابة الكارثة الوجودية على اليهود الصهاينة ومستقبلهم فوق أرض فلسطين ، فها هم والإدارة الأمريكية يمارسون شتى صنوف الترهيب والترغيب والضغوط على الفلسطينيين ودوائر القرار الإقليمي في الواقع الرسمي العربي المتقاطع مع المشروع الأمريكي من أجل فرض مسألتين إستراتيجيتين يتحدد بموجبهما مستقبل قضية الشعب الفلسطيني وهما :-
1. إسقاط حق العودة ، على اعتبار أن الدولة الفلسطينية العتيدة هي وطن الشعب الفلسطيني . وهنا لابد من التأكيد أن مفاوض المنظمة قد ارتكب خطيئة كبرى عندما وافق على ترحيل موضوع عودة اللاجئين إلى مفاوضات الحل النهائي بموجب اتفاقات " أوسلو " ، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية مذاك وحتى الآن من الامتناع التجديد للقرار 194 تحت ذريعة أن ذلك يمثل تدخلاً للتأثير على المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية . مضافاً لذلك مجموع الرؤى والتصورات والوثائق الفلسطينية الصهيونية المشتركة ( وثيقة جينف - وثيقة أبو مازن بيلين – المبادرة العربية ) والتي أتت جميعها لتضع بدائل وحلول لقضية اللاجئين . ويأتي الجهد الأمريكي و" الإسرائيلي " لإنهاء منظمة الانروا وتغيير وظيفتها في خطوة لإنهائها كلية ، إنما يأتي في سياق أنها الشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني . وهذا ما طالب به " إرييه إلداد " عضو الكنيست الصهيوني إلى إنهاء الانروا ونقل الملف إلى المفوضية العليا للاجئين لتحويل قضية اللاجئين من سياسية إلى إنسانية .
2. المطالبة بالاعتراف الفلسطيني الرسمي ب" يهودية الدولة " ، فاهتمام قادة العدو بذلك قديم ، وقانون العودة في العام 1950 نص على أن من حق كل يهودي أن يهاجر إلى البلاد ، واليهودي هو من ولد من أم يهودية أو تهود . بالإضافة إلى قانون 1992 حول " كرامة الإنسان وحريته " وهدفه الدفاع عن كرامة الإنسان وحريته من أجل تثبيت قيم دولة " إسرائيل " كدولة يهودية ديمقراطية . حيث أنه ومن خلال تبني الإدارة الأمريكية لمقولة يهودية الدولة ، أصبح التبني دولياً بعد ما ورد على لسان جورج بوش الابن في العقبة عام 2003 حين قال ( اليوم أمريكا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية ) ، وهذا ما حاول فرضه في مؤتمر أنا بوليس العام 2007 . وهو ما أكد عليه خلفه الرئيس أوباما بضرورة أن يعترف الفلسطينيين بيهودية الدولة في أكثر من مناسبة ، وكلام أوباما هذا تم التأكيد عليه في لقاء جمعه ورؤساء المنظمات الصهيونية في أمريكا ، حيث أبلغهم ومن باب طمأنتهم على الكيان بأن طالبهم أن يتركوا له شأن معالجة موضوعي الأمن والخطر الديمغرافي وهو أقدر منهم على معالجة المسألتين . ورغم هذا الاحتضان المطلق من قبل الإدارة الأمريكية إلاّ أن القادة الصهاينة لا يثقون إلاّ بما ينجزونه بأيديهم فهم أقروا قانون الجنسية والذي ينص صراحة على إلزام كل من يريد الجنسية بإعلان ولائه لدولة " إسرائيل " بصفتها اليهودية . وما سبقه من قانون النكبة الذي نص على معاقبة كل من يأتي على ذكر النكبة . والخشية أن يؤدي هذا الاعتراف إذا ما حصل أن يسهل على الصهاينة تنفيذ الترانسفير بحق أهلنا في مناطق العام 1948 وعلى حق العودة أيضاً . لأن الغلبة بمفهوم الصهاينة وبكل عناوينها لا معنى لها بدون الغلبة بالمعنى الديمغرافي والوجود السكاني الخالص لليهود . فإسرائيل واليهودية مشروع المستقبل والوجودي وقائم على أبعاد ديمغرافية وجغرافية .
إنّ حيوية شعبنا وقدرته الفائقة على اجتراح المستحيل من أجل عزته وكرامته الوطنية ، والتي يُدرك أنها ستبقى منقوصة طالما بقي الاحتلال فوق أرضنا ، وهو منذ 70 عاماً لم يفتت عضده رغم ما تعرض له من شتى لصنوف التنكيل والقتل والتشريد والتأمر والملاحقة والأسر والإبعاد .
أصبح العامل الديمغرافي سلاحاً مهماً في استعادة الأرض الفلسطينية وهو بالتأكيد لصالح الفلسطينيين ، ويمكن أن يستخدم شعبنا هذا العامل الحيوي والإستراتيجي ليضيفه إلى سلاح المقاومة ، وهي صالحة لتكون أرضية لمواجهة ديمغرافيا الاستيطان وهجرة اليهود ومحاولاتهم البائسة لرفع معدلات الإنجاب لدى النساء اليهود ، بالإضافة إلى جهودهم في جلب المزيد من اليهود .
رامز مصطفى
كاتب فلسطيني