يستمر الوضع الإنساني في قطاع غزة بحمل سمة الخصوصية في شكل التحديات التي يواجهها العمل الخيري، على إيقاع تسارع الأحداث السياسية، وردود الأفعال الارتدادية، بما يتضمنه ذلك من حدة الاستقطابات في المنطقة، التي تتداخل فيها ملفات دولية وإقليمية تلقي بظلالها على القضية الفلسطينية.
فحالة الصمت الدولي تجاه حصار يعد من الأطول على مر التاريخ، ومن الأشرس بحيث يمنع الدواء عن المريض، والحليب عن الطفل الرضيع، ويقطع أوصال العائلات نتيجة المنع من الانتقال من القطاع وإليه، بل وتصل المصيبة إلى وضع مليوني إنسان على شفير الجوع، تنذر إلى جانب تردي الأخلاقيات في المستويات السياسية، إلى ما هو أعظم من ارتداد للعصور الوسطى المتحللة مجتمعاتها وإنسانها من القوانين الضابطة لسلوكيات الدول والأفراد الجامحة بحق بعضها بعضاً.
يشذ عن محور الدول الدائرة في فلك الجريمة، عدد من الحكومات في بلدان عربية وإسلامية، استأثرت الخوض في غمار التحدي لواقع الإخلال وممارسة الانتهاكات بحق الأخ والشقيق، وحملت على عاتقها تحمل تبعات موقفها الشجاع في الوقوف إلى جانب الحق الإنساني، فكانت قطر إحدى هذه الدول التي لم يرضها أن تسمع أنين الجياع والمرضى في غزة دون أن تبادر إلى الحراك الفعلي والحقيقي، وليس "الشعاراتي"، فخصصت من موازنتها حزماً من الدعم للنهوض بالقطاعات الحياتية في غزة، على رأسها القطاع الصحي، إضافة لتأمين الاحتياجات الأساسية من الغذاء والوقود، وترميم المنازل والمدارس، وغيرها من المشروعات.
كما تشمل القائمة دولاً أخرى كتركيا التي لا زالت تتخذ مواقف إنسانية داعمة، فضلاً عن المواقف السياسية الحازمة المتمثلة في توفير السند، والقيام بدور الظهير القوي المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني بشكل صريح يفصح عن ثوابت في السياسة التركية لا تقبل الالتباس في هذه القضية. ولا يمكن إنكار أدوار دول أخرى عربية وإسلامية لم تبخل على المحاصرين في غزة بالدعم الإنساني، وإن كان ضمن حدود إمكانياتها السياسية، قبل الإنسانية.
ولمصر العروبة، الكبيرة في الدور والمكانة بين أشقائها العرب، والكبيرة في تحمل عبء المسؤولية الكبير للتداعيات السياسية والإنسانية للقضية الفلسطينية منذ البدايات، فضل كبير تجلى في مقاومة الضغوط الرامية لقطع شريان الحياة عن غزة من جانب دولة الاحتلال والقوى التي تقف خلفها، لتبدي حكمة في التعامل مع الوضع الراهن، سيما مع ازدياد التعقيدات بعد دخول عامل الاضطراب الأمني الذي أحدثته الأعمال الإرهابية في سيناء على الخط.
فقد كان للهجمات الإرهابية على رجال الأمن والجيش المصري تأثيراتها السلبية على حركة التنقل من وإلى غزة عبر معبر رفح البري، إلا أن ذلك لم يمنع الحكومة المصرية من تقديم الكثير من التسهيلات تجاه المحاصرين في القطاع، ظهر ذلك بشكل واضح في تلبية الحاجة بمرور المواد الأساسية للأهالي في غزة، وتزويد القطاع بالعديد من متطلبات القطاع الصحي، كالدواء والمستلزمات الطبية، فضلاً عن فتح معبر رفح من حين لآخر لإدخال مواد البناء والوقود، وغيرها من السلع الأساسية.
كما كان لبادرة الحكومة المصرية فتح معبر رفح طيلة شهر رمضان المبارك الأثر الإيجابي الكبير في التخفيف على سكان القطاع، وفي السياقات ذاتها تعاون الأشقاء في أرض الكنانة مع جهود التنسيق لإطلاق قافلة "أميال من الابتسامات 34"، كما هو عهدنا بها حين كانت تتخذ التدابير اللازمة لتسهيل عبور بواكير قوافل أميال.
ولا يمكن إنكار استكمال القاهرة لدورها العروبي في المرحلة الحالية من خلال إبدائها الحرص الأكبر في المساهمة الفاعلة من أجل إنجاز مشروع المصالحة الوطنية الفلسطينية، وبرز ذلك في الجولات المكوكية التي قام بها المسؤولون المصريون إلى غزة ورام الله، وأثمرت عن الاتفاق على تسلم حكومة الوفاق الوطني لمهامها في غزة، ومن ثم البحث في كافة الملفات العالقة.
ويأتي العمل الخيري في قضية حصار غزة – وهنا يكمن أحد جوانب الخصوصية- من أجل تحقيق غايات عديدة ليس أقلها إيصال المساعدات الإغاثية والإنسانية للمحاصرين، بل تزداد الحاجة لتواصل المبادرات الخيرية تجاه غزة إلى العمل على التأكيد على رسوخ قيم الخير في النفس البشرية، وبأن مسلكيات من يفرضون الحصار ومن يقف خلفهم من الداعمين للجريمة، إضافة للمصفقين والشامتين والمتربصين بخبثهم خلف الجدر، ينتظرون لحظة إعلان موت غزة، كعنوان لموت الأمة بأسرها، حيث يأتي دور العمل الخيري من أجل مواجهة بشاعة صورة التردي الأخلاقي، وإن كان من صنع دول عظمى تتفرد بالقرار السياسي الدولي، وتنشغل ليل نهار بضبط إيقاعه بحسب أهوائها ومصالحها.
ويقوم العمل الخيري الذي نجح خلال السنوات الماضية في تنظيم نفسه كجسم واحد موحد تجمعه أبجديات ومبادئ العمل الإنساني، على تحقيق غاية أخرى تتمثل في كشف حقيقة جريمة الحصار، وتداعياتها على المستوى الإنساني، وأبعادها المختلفة في تأثيراتها على مجريات الأمور على الأرض، وإزاحة الغموض والتعتيم والتضليل التي تمارسها دولة الاحتلال لإخفاء حجم الجريمة، وتحميل وزرها للضحية.
ومع تبدل الأحوال السياسية، واختلاف المرحلة، التي فرضت نفسها خلال السنوات القليلة الماضية، ليكون عنوانها تشديد الخناق على أهالي غزة، أكثر فأكثر، من خلال الحصار الجائر، غير الأخلاقي وغير الإنساني، كي ترفع الراية البيضاء، وتسلّم صرح الكرامة العظيم الذي يسكن روح أبناء القطاع، وبالتالي القبول بالتنازل عن الثوابت الوطنية، كانت العزيمة مشحوذة دوماً بالأمل لدى رواد القطاع الخيري ومنتسبيه في توحيد الجهود والتواصل من أجل استمرار الدعم الإنساني بكافة الوسائل المتاحة، من جانب، والعمل على خلق البيئة المناسبة من أجل فتح آفاق أكبر يمكن معها توسيع نطاقات الدعم الإنساني للتخفيف من وطأة الحصار وضراوته، من جانب آخر.
عودة قوافل "أميال من الابتسامات" إلى ساحات العمل الخيري والإنساني، واستئناف مساعيها في كسر الحصار الظالم على القطاع، يأتي في هذا الإطار، وذلك بعدما حققت في سنوات الحصار الأولى إنجازات على صعد مختلفة، خيرية وإنسانية وقانونية، أنضجت من خلالها ثمار التضامن والتفاعل الدولي مع إحدى القضايا الإنسانية الأبرز في هذه المرحلة، عبر تسليطها الأضواء على "جريمة العصر"، والتعريف بحيثياتها ووقائعها، وحشد الرأي العام العالمي من أجل إحداث الضغط في العواصم العالمية، والتأثير على صناع القرار الدولي لإنهاء الحصار.
ناهيك عن ما تم تنفيذه من مشاريع خيرية، اتخذت في بداية الأمر طابعاً إغاثياً، ثم ما لبثت أن سارت في طريق المشاريع التنموية الهادفة للخروج بالأسر الغزية من حالة الفقر والعوز، إلى الإنتاج والاعتماد على النفس في توفير الاحتياجات الأساسية، والحياة الحرة الكريمة.
وكان واضحاً ذلك التأثير الإيجابي في تنمية العديد من القطاعات الحيوية في غزة، كالقطاع الصحي، والزراعي، والصناعي، وإحداث التغيير في نوعية حياة العديد من الشرائح كالصيادين والعمال وطلبة العلم، إضافة للأيتام وذوي التحديات الخاصة، والمرضى والمسنين، وغيرهم، من خلال تحسين مستوى معيشة الآلاف منهم.
تعود "أميال من الابتسامات" لتكمل المسيرة الإنسانية، وتعيد معها إعطاء الزخم لـ"جبهة الدفاع الإنساني" - إن جاز التعبير- بهدف تحقيق المزيد من الانجازات، على طريق كسر الحصار، وإدامة الحراك الإنساني الدولي من أجل غزة، في ظل مرحلة بالغة الصعوبة من تاريخ القضية الفلسطينية، تشهد معها حرب "كسر العظم"، وحياكة المؤامرات التي تضع القضية وحقوق الشعب الفلسطيني برمتها في مهب الريح.
بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة