هل زهافا جلئون حليفة أم عدوة؟

بقلم: جواد بولس

تطفو من حين إلى آخر نقاشات قديمة جديدة حول ما يسمى بـ"اليسار الصهيوني" وشرعية العمل السياسي المشترك معه داخل إسرائيل.
لم أخفِ مواقفي خلال السنوات الماضية إزاء هذه القضية، فأنا من "مدرسة" تقضي تعاليمها بضرورة إيجاد السبل لاختراق مجتمع الأكثرية اليهودية واستجلاب "جيوب" منه لتدعم قضايانا العينية، أو ربما تناضل معنا من أجل مطالبنا الجوهرية.
الأعمى فقط لن يرى حقيقة ما يجري داخل إسرائيل، وماذا يتشكل في دهاليزها السلطانية؛ والأحمق من لا يرعوي مما حصل ويحصل في داخل "عمقنا العربي والإسلامي"، والأبله من ما زال يعوّل على مواقف "ضمير العالم الحي"، والمقامر من يبني على أنّ "كومة جماجم" ستكون حتمًا "لمجدنا سلما".
نحن في النضال لسنا وحدنا، ولم نكن ضعفاء ولن نكون؛ لكننا سنكون أقوى إذا نجحنا بضم حلفاء من اليهود إلى جانبنا، لاسيما أولئك الذين تستعديهم قطعان العنصريين السائبة، وتضعهم في قوائمها السوداء وتحسبهم خونة فاقدين لدمغة الأهلية (الكشروت) القومية .
لن تكفي مقالة أسبوعية لتفكيك جميع عُقد هذه المسألة، أو للتعاطي مع كامل عناصرها؛ فمحرّمو العمل مع "اليسار الصهيوني" يختلفون بحججهم وبمصادر تحريمهم، وبمشاريعهم السياسية الكبرى كذلك. وإذا استبعدنا من يحرّمون منهم الشراكة لأسباب عقائدية دينية، أو لأسباب عقائدية قومية، سنبقى مع مجموعات لا تحرّم العمل مع " اليهود" مبدئيًا؛ بل تعارضه لأسباب سياسية، وعلى الأغلب بسبب "صهيونية" هؤلاء، وما يوحي به هذا الانتماء ويعنيه.
يعتمد المعارضون على التجارب ويتّبعونها مسطرة وقياسًا؛ فهذا "اليسار"، هكذا يقول المعارضون، على اختلاف مناهجه ومركباته، أثبت منذ يوم الصراع الأول على هذه الأرض، أنه منقاد بصهيونيته، التي سعت في سياقها التاريخي لتكون بديلة لوجودنا، نحن الفلسطينيين، هنا. إنهم عمليًا، وفق هذه المدرسة، "الذئاب" نفسها في فراء أخرى!
لن أناقش صحة هذه المواقف ولا معاني تسمياتها الحاضرة في قبالة تاريخها، ولن أجرب مدى انطباقها على واقعنا في ظروفنا الحالية، لأنني على قناعة بأن مصلحتنا الإستراتيجية العليا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، في إيجاد من يقف مع حقوق اخوتنا الفلسطينيين وتخلصهم من الاحتلال، ومع حقوقنا في نيل مواطنة كاملة في الدولة. هكذا أومن، وحق غيري ألا يؤمن مثلي؛ فقوانين البقاء ستبقى أقوى من كل الشعارات وغلاوة الحياة ستغلب اللذة التي في الأحلام.
المواقف السياسية المشتركة هي مبررات التحالفات المنشودة وأسسها؛ فمن يجرّم الاحتلال، مثلاً، وموبقاته لا مانع أن يصطف معنا في خندق واحد حتى لو كان يعتمر "كيباه" أو يصر على تعريف نفسه صهيونيًا. ومن يوافق على حقنا بالمواطنة الكاملة في إسرائيل وبالمساواة الحقيقية، سيكون حليفنا في معركتنا ضد الفاشية، حتى لو أصر أن يبقى ابن "ميرتس" أو غيرها. قد لا يكونون شركاء في الحلم، لكنهم اليوم معنا في "حلق جهنم" أهدافًا مطاردةً وحلفاء من أجل الخلاص، بعد أن باتوا يشعرون بدنوّ الهاوية.
استطيع أن أملا صفحات بأسماء شخصيات ومنظمات اصبحوا في عداد أعداء النظام، لكنني ساكتفي بايراد ثلاث عيّنات "طازجة" من شأن مواقفها أن توضح مرادي ومطلبي.
قبل أيام اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بما صرّحه رئيس "المحكمة العليا" السابق البروفيسور أهرون براك، في محاضرة ألقاها في الجامعه العبرية في القدس في الثامن من يونيو/حزيران الجاري؛ وشدّدت معظم عناوينها، على تقديمه، لأول مرّة، تعريفًا حادًا لطبيعة نظام الحكم السائد في الدولة، حين وصفه "بديكتاتورية الأغلبية واستبدادها" وكذلك على تخوّفه من أن إسرائيل "تمر في عملية تتغلب فيها أسس غير ليبرالية على ديمقراطيتنا الدستورية، وثمة خوف من أننا في قمة منزلق أملس".
معظم المتابعين العرب لم تُثِرهم مضامين المحاضرة التي حفلت بتوصيف أشمل لما قامت وتقوم به القوى الفاشية في حربها ضد "المحكمة العليا الإسرائيلية" وضد مكانة قضاتها؛ وقد يعود سبب ذلك الإهمال إلى ما يمثله "ماضي" القاضي براك وحقيقة كونه شريكًا وازنًا وبارزًا في هندسة دور "المحكمة العليا" ومواقفها المعادية لحقوق الفلسطينيين بشكل عام، ولحقوق المواطنين العرب في إسرائيل.
قبل محاضرة القاضي براك بيوم واحد، أي في السابع من يونيو، نشرت رئيسة حزب "ميرتس" السابقة، زهافا جلئون مقالًا في جريدة "هآرتس" تحت عنوان: "لنوقف البولدوزرات بأجسادنا"؛ وفيه تطرقت إلى رفض "محكمة العدل العليا " لالتماس قُدّم باسم مواطنين بدو فلسطينيين يسكنون، منذ سنوات، في موقع يدعى" الخان الأحمر"، كانت الحكومة الإسرائيلية قد أصدرت أمرًا بطردهم وهدم منازلهم مع مدرسة كانت تخدم مئة وخمسين طالبًا منهم. وصفت زهافا جلئون حكومة إسرائيل "بالمجرمة، والسكرى بتأثير القوة، وعديمة القلب والكوابح الاخلاقية". بالتزامن مع نشر مقالة جلئون في "هآرتس" قامت منظمة "بتسيلم" بنشر بيان تشجب فيه إدارتها قرار المدعي العام للدولة مناحيم مندلبلط إبطال لائحة اتهام كانت قد حررت على خلفية قتل الشاب سمير عوض، ابن السادسة عشرة، بعد أن أُطلقت النيران على رأسه وظهره وهو عالق في سياج من الأسلاك الشوكية.
إنها "بتسيلم" نفسها التي حذرت قضاة "المحكمة العليا" بعد رفضهم التماس سكان "الخان الاحمر"، ووصفتهم، ببيان صدر عنها يوم 27/5، كشركاء في تنفيذ جريمة حرب؛ وهي المنظمة ذاتها التي بادرت قبل يومين إلى نشر عريضة شملت مئات التواقيع لشخصيات عالمية ومحلية، يشجبون فيها سياسة إسرائيل في ترحيل السكان البدو الفلسطينيين، واقترافها جراء ذلك لجرائم حرب بهدف الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وضمها إلى اسرائيل.
كل ما سيقال عن ماضي القاضي براك صحيح، وكل ما سيلصق بحق حزب زهافا جلئون محق وصائب، وكل من سيشكك في نوايا منظمة "بتسيلم" يكون قد حاول واجتهد؛ أما الحقيقة فستبقى أنهم وأمثالهم من اليهود صحوا ذات نهار "صهيوني" ليجدوا أنفسهم في مصاف أعداء من يقودون الدولة على ذلك "المنزلق الأملس" نحو الهاوية ، كما وصفه القاضي براك.
لقد أنهت زهافا جلئون مقالتها بتحريض واضح وبدعوة جريئة أعلنت فيها "علينا في هذا الامتحان ان نستنفد جميع وسائل النضال غير العنيف، بما في ذلك العصيان المدني واعتراض البولدوزارات؛ لقد انتخبت الحكومة بشكل قانوني، لكنها ليست مخولة لاقتراف جرائم حرب، ومن المؤكد ليس بالنيابة عنا ولا بالوكالة منا" .
إنها مجرد عيّنات لا يمكن " تطنيشها" فنحن نعيش في فوهة بركان وعلينا أن نكون حكماء وليس فقط محقين.
 قد يكون ما كتبه في هذا الصدد السيد سليم سلامة، وهو رافض عتيق لدور اليسار الصهيوني وكاتب وصحافي لافت بنقده وحدة قلمه، علامةً وقدوةً لما على الانسان المسؤول أن يفعل، فلقد عقّب على مقالة جلئون المذكورة وقال "أنا الرافض (والمعادي) منذ سنوات طويلة لكل ما يسمى "اليسار" الصهيوني/ الإسرائيلي، فكريًا وسياسيًا، تاريخيًا وأخلاقيًا، ولا أفوّت فرصة لنزع الأقنعة عنه وكشف حقيقته ، لا يسعني اليوم إلا أن احيّي زهافا جلئون، الزعيمة السابقة لـ"ميرتس" ولهذا "اليسار" على موقفها في قضية اقتلاع وتهجير "عرب الجهالين".. كتبت جلئون مقالا جريئًا غير مألوف في مشهد هذا "اليسار"، يشكل شذوذا غير مسبوق في موقفه ومنهجيات ادائه".
فهل بعد هذا الكلام من كلام ؛ إلا ما أضاف من تخوّف وحذر، تمامًا كما يتوجّب على كل عاقل ومجرّب ومؤمن بصدق قضيته أن يفعل، خاصةً وقد فاضت طرقاتها بالجحور والحفر.
سيكون نضالنا ضد الفاشية في إسرائيل أقوى مع حلفاء يهود ولا ضير، إن كانوا صهاينة ومستعدين أن يقفوا بصدورهم أمام شيفرات بولدوزارات الهدم والدمار.

جواد بولس
كاتب فلسطيني