لم تكن كأي امرأة، ولم تردعها قوانين الفاشية الاسرائيلية، انحازت لفلسطين وهي الاسرائيلية الجنسية، امنت بإنسانية الانسان لتُعلي مكانته فوق التمييز القومي والعرقي، وامنت بنضال الشعوب المقهورة من اجل التحرر، وفي مقدمتها شعبنا الفلسطيني .. ناضلت كما الحزب الذي انتمت اليه – الحزب الشيوعي الاسرائيلي – من اجل مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتقدم، وضد الاحتلال، ومن اجل حقوق شعبنا الفلسطيني في التحرر الوطني واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وحق عودة لاجئي شعبنا لأراضيهم التي هجروا عنها عام 1948 .
"فليتسا لانغر" بولندية الاصل، عملت في مهنة المحاماة، حملت لواء الدفاع عن السجناء الفلسطينيين الذين سجنوا داخل اسرائيل، وعذبوا بكل قسوة في زنازين واقبية التحقيق، فكانت المحامية والاخت والرفيقة الانسانة بالنسبة لهم، عرفها كل من انكوى بسياط القهر الاسرائيلي، فكانت خير مدافع عن قضايا ابناء شعبنا السجناء، وكانت تعبر المرة تلو الاخرى عن استيائها وعارها من الانتماء لهذه الدولة التي تقمع شعبنا الفلسطيني وتصادر حريته وتلحق الاذى بأبنائه.
ملحمتها النضالية "بأم عيني" تجسد بسالتها المبدئية في الدفاع عن مناضلي وفدائيي الحركة الوطنية الفلسطينية في وجه القمع الاسرائيلي، هذه الملحمة شكلت احدى المواد التثقيفية لنا في الحزب مع بدايات انطلاق عملنا النضالي، وقد جسدت مضامينها احد الافلام الذي كنا نحرص على مشاهدته باستمرار، حيث شكل مادة تعبوية للتصليب الثوري في وجه اساليب المخابرات الاسرائيلية داخل زنازينه الفاشية واساليب قمعه العنصرية .. تربينا على تجربة الرفيق القائد سليمان النجاب وصموده الاسطوري اثناء التحقيق، وبتنا نردد مقولته الشهيرة لرجال التحقيق الاسرائيليين " ان شرفي ليس في جسد امراتي، بل شرفي في ان اقهركم ولا اعترف " كان ذلك عندما حاولوا كسر صموده، فهددوه بإحضار زوجته وانتهاك شرفها امامه .
هي ملحمة بطولية لمناصلي شعبنا جسدتها "فليتسا" كمناضلة للدفاع عنهم امام محاكم الاحتلال الفاشية، اختزنتها الذاكرة فكانت الزوادة التي تسلحت بها عندما خضت والمخابرات الاسرائيلية معركة طويلة وقاسية من التحقيق في "مسلخ" سجن غزة المركزي في يوليو 1986م، معركة امتدت لخمسة وثمانين يوما قضيتها ما بين "مسلخ" التحقيق وزنازين العزل والارهاب . بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي الفلسطيني، والقيام بنشاطات " تخريبية ".
هناك كانت معي "فليتسا لانغر" بمواقفها البطولية، بتجارب ابطالها المشرفة، وبدورها التي اعطاني صلابة اضافية استمديتها من رفاقا ليس في بلدي فحسب، وانما في كل العالم، حتى داخل دولة الاحتلال الاسرائيلي .. يقفون الى جانبي.. وينتظرون صمتي وصمودي وان لا اعترف، ليس من اجل حماية حزبي ورفاقي فحسب، وانما لان ذلك يجسد انتصارا اضافيا على جهاز المخابرات الاسرائيلي القمعي وعلى أيدولوجيته واساليبه الفاشية، ليضاف الى تجارب ورصيد المجد لشعبنا الفلسطيني، ولكل تجارب الاحرار في العالم .
هناك في قلب "المسلخ" ومن على كراسي الذل والاهانة، تذكرتها وتذكرت كل ما يعطيني دفعه معنوية لأجل الصمود وتحدي اساليب المخابرات الاسرائيلية.. وفي داخل الزنازين تمنيت ان تأتي لإنقاذي من هذا العذاب الوحشي ..من هذه العزلة التي امتدت لأسابيع طويلة لم ارى فيها احدا يصلب ارادتي، حتى تمنيت ان ارى وجهي في المرأة، وانا الذي ادرك ان المخابرات الاسرائيلية ومؤسسته يخشون لسانها وحجتها في تجريمهم .
سألني احد المحققين اثناء احدى جولات التحقيق القاسية، وكان يدعى "ابو علاء"، من محاميك – وكنت حينها لا اعلم من هو – فقلت له بتحدي " فليتسا لانغر" .. فتغيرت ملامح وجهه، فدارك ذلك قائلا، ستعترف وحينها لن تنفعك لا "فليتسا" الشيوعية ولا غيرها .. هم راهنوا على انكساري من خلال تحقيقهم الفاشي الذي يطول الحديث عنه، وعن تفاصيل ما واجهت خلال هذه التجربة القاسية جدا.. لكنهم انكسروا ولم انكسر .
كان حزبنا قد اوكلها للدفاع عني، وقد نجحت بزيارتي في سجن غزة بعد خمسة وستون يوما من بداية اعتقالي، عندما حضر السجان لاصطحابي لمقابلة المحامي كما اخبروني، حينها لم اكن اعرف من هو هذا المحامي، فاذا بي أفاجأ بالمحامية " فليتسا لانغر"، صافحتني بحرارة، وعرفتني بنفسها لأبادرها القول بانني اعرفها واكن لها احترام كبير.. ضحكت وقالت انا مبسوطة لأنك لم تعترف، وهم لن يستطيعوا مواصلة اعتقالك، وطلبت مني ان احدثها عن اساليب تعذيبهم لي.. حدثتها عن مواقف كثيرة، وقلمها لم يتوقف عن الكتابة موثقا التفاصيل كافة .
توقفت عند حديثي عن احد جولات التحقيق التي تعرضت لها باحثة عن التفاصيل، عندما اخبرتها بان رجال المخابرات احضروني في احدى جولات، وقاموا برسم المطرقة والمنجل باللون الاحمر على جبيني كرمز للشيوعية، واجبروني على الجلوس اعلى مسند كرسي خشبي، وطلبوا من مجموعة من الرفاق الذين اعتقلوا معي وكنت مسئولهم، وقد اعترفوا بالتهم الموجهة لهم، ان يصلوا "للينين الصغير" .. استفزها ذلك كثيرا، واستشاطت غضبا، وقالت لي بالحرف الواحد " سيدفعون ثمن ذلك ", حينها لم اعرف ما الذي كانت تنوي فعله.
افرج عني من زنازين سجن غزة المركزي دون أي اعتراف، وكان "لفليتسا" وضغطها دورا حاسم في ذلك، وعلمت لاحقا انها قد رفعت قضية لمحكمة "العدل" العليا الاسرائيلية ضد المحققين الاسرائيليين الذين حققوا معي بسبب اسليبهم الوحشية التي مارسوها تجاهي، وقد سلطت الضوء على حادثة المطرقة والمنجل، لتتهمهم بالعنصرية وبازدراء فكر الاخرين والحط من قيمته .
"فليتسا" ايتها الرفيقة المناضلة ..لم تستطيعي مواصلة البقاء في دولة الاحتلال، لتعودي الى موطنك الاصلي، اثرتي الرحيل بعدما اديتي رسالة انسانية ومبدئية بامتياز، اليوم ترحلين رفيقتنا الاممية، لتبقى ذكراك تكلل قلوب وعقول من عرفوكي، ومن دافعتي عنهم داخل اقبية الفاشية الاسرائيلية.. بالوفاء والتقدير والامتنان، وستبقى مواقفك مصدر اعتزاز لكل من عرفك او قراء عن تجربتك الكفاحية الخالدة، وبالنسبة لي ستبقين رفيقة مناضلة اعتز بها، لأنك نموذج قد تمرد على مؤسسة القمع الاحتلالية دون ان يرف لها جفن او تخشى قمعها، وواصلتي دون تردد التمسك بمواقفك العنيدة المنحاز للقضية الفلسطينية وحقوق شعبنا العادلة .
سلام لك رفيقتنا الباسلة، وسلام لكل الذين رسموا ويرسمون على طريق صمود ونصر شعبنا علامة .
بقلم/ نافذ غنيم
نائب الامين العام لحزب الشعب الفلسطيني
[email protected]