مسيرة العودة الكبرى في جمعتها الرابعة عشر

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

تمخر مسيرة العودة الوطنية الفلسطينية الكبرى عباب المقاومة والنضال، وتواصل درب الآلام ومخاض المعاناة، وتشق طريقها الصعب المعمد بالدماء، المحفوف بالمخاطر والتحديات، والحافل بالمفاجئات والصدمات، وتواصل فعالياتها اليومية والأسبوعية دون كللٍ أو مللٍ، وبدون تبرمٍ أو شكوى، أو أنينٍ وصراخٍ، ويمضي أبطالها غير مبالين بما يلقون ويواجهون، وغير خائفين مما ينتظرهم أو يتربص بهم، بل يمضون بأملٍ ورجاءٍ وثباتٍ ويقين، بلا يأسٍ يحبطهم أو ضعفٍ يمنعهم، ولا يقعدهم بأسُ العدو وبطشه، ولا يخيفهم استعداداته وتجهيزاته، ومعداته وآلياته، ولا يضعف من عزيمتهم كثرة الدماء ولا عمق الجراح، ولا يمنعهم من الرباط قناصة العدو وغدر جنوده، ولا يحول دون إقدامهم رصاصه الطائش المندفع نحوهم ولا المصوب تجاههم والموجه عليهم.
إنها الجمعة الرابعة عشر للمسيرة الكبرى، التي خطت أولى خطواتها بوعيٍ وبصيرة، وبخططٍ مدروسةٍ وبرامج معلومة، وفعالياتٍ مرسومةٍ بحكمةٍ وتدرجٍ، في ذكرى يوم الأرض، في الثلاثين من مارس/آذار الماضي، الذي كان صافرة البدء ونقطة الانطلاق نحو مسيرةٍ شعبيةٍ مدنيةٍ، وطنيةٍ جامعةٍ لأطياف شعبهم، توحدت فيها الفصائل والقوى، والمنظمات والهيئات، والنقابات والاتحادات، والفعاليات والشخصيات، ليعيدوا بها الاهتمام بقضيتهم، ويستعيدوا الأمل في عودتهم، ويسلطوا الضوء على معاناتهم، ويستحثوا المجتمع الدولي للوقوف معهم ونصرتهم، وتأييدهم في نضالهم المشروع ومقاومتهم السلمية، بعد أن صم العدو أذنيه وأغمض عينيه، ومضى سادراً في حصار قطاع غزة وتجويع أهله، متعاوناً مع الجيران، ومستقوياً بالحلفاء، ومستعيناً بالخصوم والأعداء، مستغلاً ظروف المنطقة والأزمات التي تعصف بدولها والهموم التي تعاني منها شعوبها.
أثبت الشعب الفلسطيني من خلال مسيرة العودة، التي ابتكروا فيها كل جديد، وابتدعوا فيها أسلحةً محليةً، وسخروا أدوات بيئتهم وألعاب أطفالهم، أنهم أصحاب حقٍ وملاك أرضٍ ووطنٍ، وأنهم صبرٌ في الحرب وصُدُقٌ في اللقاء، وأنهم لا يخافون الموت ولا يهربون من القتل، فغايتهم العودة، وأملهم في الحرية، وعيونهم على الوطن، الذي يفتدونه بالأرواح والمهج، ويبذلون في سبيله الغالي والنفيس، إذ قدموا خلال الأربعة عشر جمعةً التي مضت ما يزيد مائة وثلاثين شهيداً، من الشبان والشابات والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ومن طواقم الإسعاف والدفاع المدني، ومن الإعلاميين والصحافيين والمراسلين والمصورين وغيرهم، فضلاً عن قرابة خمسة عشر ألف جريحاً، إصابة العشرات منهم خطرة وحرجة.
فهل حققت المسيرة الكبرى أهدافها، وهل نجحت في مخططاتها، وهل تمكنت من استعادة الألق والبريق إلى قضيتها، وأعادت الوحدة إلى أبناء شعبها، وجمعت بين أطيافه وفصائله، ووحدت قواه الحزبية وتجمعاته الشعبية، وهل أن حجم الثمار التي جنتها والنتائج التي حققتها يوازي حجم التضحيات التي قدمها الشعب وما زال، علماً أنها تضحياتٌ جسامٌ وخسائر في الأرواح كبيرة، التي هي في أغلبها شابة وفتية، وهل يشعر الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خصوصاً وفي عموم الوطن وفي بلاد الشتات واللجوء بالرضى عن هذه المسيرة، ويرى أنها وسيلةً نضالية مناسبة وآلية مقاومة مدنية فاعلة، وأنها تستطيع أن تردع العدو وأن تلجمه، وأن تنال منه ما لم تنل بالمقاومة المسلحة.
وهل أنها أحرجت العدو الإسرائيلي وشوهت صورته لدى المجتمع الدولي، وكشفت عن صورة الاحتلال البشعة وممارساته القاسية المنافية للأخلاق والمتناقضة مع القوانين والأعراف الدولية، وعرَّت صورة قيادته السياسية والعسكرية، فعجز عن مواجهتها بالقوة، وتراجع أمام فعالياتها المدنية وأنشطتها السلمية، وأحجم عن استخدام أسلحته الفتاكة وآليات القتل الجماعية، وأمر بعد الجُمَعِ الأولى قناصته بالابتعاد وجنوده بالكف عن استخدام الأعيرة النارية، وتقليل حجم الإصابات القاتلة، تجنباً للحرج الذي وقعوا فيه، وللمسائلة الدولية التي باتوا يتعرضون لها، وقد أدركوا أن المزيد من الدم لا يرهب الفلسطينيين، وأن المزيد من القوة لا تردعهم ولا تمنعهم.
أم أنها أضرت بالشعب الفلسطيني ولم تقدم له شيئاً، وأنها كلفته ضحايا وكبدته خسائر كثيرة، كان بالإمكان تجنبها وعدم دفعها، وأنها كانت مغامرة ومجازفة، ومقامرة بالدماء وتضحيةً بمستقبل الأجيال، وأنها ساهمت في المزيد من اليأس والإحباط، وكرست الإحساس بالوحدة والضعف والاستفراد، وأنها لم تنجح في استنهاض الشعوب العربية والإسلامية، كما فشلت في كبح جماح الأنظمة والحكومات العربية، التي باتت تتسابق نحو العدو، وتتطلع إلى الاعتراف به والتطبيع معه، وبناء تحالفاتٍ استراتيجية معه.
كما أنها لم تمنع الإدارة الأمريكية من تنفيذ تهديداتها والوفاء بمخططاتها، والالتزام بوعودها الانتخابية، فنقلت سفارة بلادها إلى القدس المحتلة، بعد أن اعترفت بها عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، التي رأت فيه دولةً يهودية، يحق لها العيش والبقاء، ويجوز لها استخدام القوة والاعتداء من أجل الحفاظ على وجودها، وضمان أمنها واستقرارها.
أو أنها أطلقت العنان للسياسة الأمريكية المتطرفة وأفكارها الغريبة المشددة، فأعلنت عن صفقة العصر، التي تنوي فيها تصفية القضية الفلسطينية وإنهاءها، ومنح اليهود دولةً آمنةً فوق أرض فلسطين التاريخية، بعد أن تفرض على العرب والجوار، حلاً إقليماً يستوعب الفلسطينيين ويعوضهم، مواطنةً في بلادهم، أو عودةً إلى دولةٍ فلسطينيةٍ مصطنعةٍ في غزة، على أرضٍ مقتطعةٍ من صحراء الجوار، لتكون هي الوطن البديل، والأرض التي إليها يعود اللاجئون، بعد شطب حق العودة إلى ديارهم وبلداتهم في أرض فلسطين التاريخية.
قد تكون هذه التساؤلات منطقية ومشروعة، وقد يرى البعض سلبياتها ويبني عليها، ويعتقد أن مسيرة العودة ليست إلا ضرباً من ضروب اليأس، وشكلاً من أشكال الإحباط، وأن أي محاولاتٍ لتزيينها باطلة، وأي مساعي لتجميلها خادعة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً، فقد أحيت مسيرة العودة القضية الفلسطينية من جديد، وفرضتها على الأجندات الدولية، وجعلت منها رقماً صعباً يصعب تجاوزه، وأزمةً تستعصي على قوى الكون العظمى حلها دون موافقة أهلها ورضى شعبها، وما الدماء التي سالت إلا مشكاة تضيئ درب الأمة، وتأخذ بناصيتها إلى بر الحرية وآفاق العزة، فما تحررت أمةٌ بغير الدماء، ولا رحل المستعمرون عن أرضٍ بلا تضحياتٍ، ويوماً قريباً بإذن الله سينتصر الحق، وسيفرح الفلسطينيون بنصر الله.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 30/6/2018
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]