المحامية فيليشيا لانجر والسجين سامي إسماعيل

بقلم: محمد أشرف البيومي

المحامية  فيليسيا لانجر : دافعت عن سامي إسماعيل في المحاكم الإسرائيلية

 توفت في 21 يونية 2018

سامي إسماعيل: الفلسطيني – الأمريكي الذي تعرض للتعذيب في السجون الإسرايلية عام 1977

 

منذ أيام قليلة توفيت المحامية والإنسانة العظيمة فيليشيا لانجر.  فيليشيا لانجر يهودية من أصل ألماني، هاجرت عام 1950 إلى الكيان الصهيوني مع زوجها الذي كان في إحدي معسكرات الاعتقال النازية. تولت المحامية فيليشيا عبء الدفاع عن العديد من المعتقلين الفلسطينيين. كانت فيليسيا عدوا للفاشية الصهيونية وممارسات الكيان ضد الإنسانية والتعذيب الوحشي. ولقد عانت نفسها الكثير من التهديدات والتشويه. عبرت عن شعورها وأفكارها في كتب عديدة منها "بأم عيني" .شعرت بالتناقض في معيشتها بالكيان مما أدي إلي مغادرتها نهائيا.  فضلت فيليشيا مغادرة إسرائيل  لكونها "لم تعد تستطيع العيش في بلاد تحكمها الفاشية الصهيونية والتي تضطهد أصحاب الأرض". عادت إلي ألمانيا رغم تاريخ النازية البغيض التي عانت منه أسرتها.

اقترن إسم فيليشيا  بإسم سامي إسماعيل في فترة السبعينات عندما كان سامي (الأمريكي الجنسية من أصل فلسطيني) طالباً متفوقا بقسم الهندسة الكهربائية بجامعة ولاية ميشجان وحصل لتوه علي شهادة الماجستراه. إنقطعت أخبار سامي تماما بعد ذهابه لزيارة والده بالضفة الغربية وهو علي فراش الموت. وبعد شهور واتصالات مكثفة من قبل الجامعة والسلطات الأمريكية تبين أن الكيان الصهيوني قد أودع سامي السجن فور وصوله إلي مطار تل أبيب.. اتهم سامي بأنه "عضو بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتوزيع الهدف (مجلة الجبهة)، والسفر لليبيا للتدريب بقصد إلحاق الضرر بإسرائيل".

كانت منظمة الطلبة العرب جامعة ولاية ميشيجان بالفعل في أوج نشاطها آنذاك وكنت ألأستاذ المشرف علي برامجها. شمل النشاط عرض القضايا العربية والقيام بمسيرات رمزية ضد الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا وضد القيادات العربية المتهادنة. وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أوج نشاطها بقيادة زعيمها د جورج حبش. تصاعد النشاط وتأجج حتي أصبحت الجامعة مركزا للنشاط الوطني العربي علي مستوي أمريكا كلها. اعتمد هذا النشاط أساسا علي تعميق المعرفة بالحق العربي الفلسطيني و العلاقة الوثيقة بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري (الأبارتايد) بجنوب أفريقيا وتاريخ الاستعمار وتوغل الرأسمالية العالمية. عملت المنظمة علي قطع الجامعة جميع استثماراتها في جنوب افريقيا مما أثار قلق الكيان وأعوانه. وربما كان إعتقال سامي نتيجة مباشرة لهذا النشاط.

شكلنا "لجنة تحرير سامي" التي شارك في نشاطها عدد من الأساتذة الأمريكيين علي رأسهم روبرت بار أستاذ سامي بقسم لهندسة الكهربائية و جون ماسترسون الأستاذ بقسم الرياضيات والمحامي العربي- الأمريكي عابدين جبارا.  وبدأت معركة طويلة من أجل تحرير إسماعيل من السجون الإسرائيلية. قامت اللجنة بحشد الجهود في الجامعة مما أدي إلي إصدار مكتب أمناء الجامعة قراراً أصر علي محاكمة مفتوحة وعادلة. كانت المحامية فيليسيا بحق نجمة هذه المعركة وفي قلبها. كما شاركت المحامية الإسرائيلية "ليا تسيمل" أيضا في الدفاع عن سامي.

منذ يومين راجعت ملف لجنة الدفاع عن سامي إسماعيل حتي أسترجع دفاع فيليشيا. قالت في معرض دفاعها عن سامي أن المحققين الإسرائيليين هددوا "بإعتقال عائلة سامي وضربهم أمامه" وأن "قيمة والده أقل من سنتين ((two cents كما " تعرض للتعذيب والإهانة الشديدة "

بدأ سامي اضرابا عن الطعام من أجل رؤية والده قبل وفاته.
حضر أستاذ سامي روبرت بار محاكمة سامي وزاره في السجن. انتقدت اللجنة بشدة تقاعس وزارة الخارجية الأمريكية عن واجبها للدفاع عن سامي باعتباره مواطنا أمريكياً خصوصا وأنه لم يتهم سامي بارتكاب أي جريمة في الأرض المحتلة

عند زيارة فيليشيا للجامعة لإلقاء محاضرة حول اعتقال سامي واعترافاته تحت التعذيب جذبت المحاضرة جمهورا  مما أزعج الصهاينة وأعوانهم. عرضت فيليشيا أنواع التعذيب الذي تعرض له سامي كما أوضحت أن بيان اعتراف سامي كتب بالعبرية- لغة لايفهمها ولا يقرأها سامي- ولكن البوليس ادعي أن بيان الإعتراف كان بالعربية ثم ترجم إلي العبرية وهذا ما أنكره سامي بشدة كما أن اعترافات سامي جاءت قبل أن يقابل محاميته وبعد أن تعرض للتعذيب خصوصا حرمانه من النوم لفترات طويلة. 

اتسعت الحملة من أجل تحرير سامي بشكل كبير في عدة جامعات بمختلف الولايات الأمريكية وخارج أمريكا حتي في اليابان حيث تشكلت لجنة لدفاع عن سامي. أوفد الكيان القنصل الإسرائيلي إلي الجامعة في ميشجان للدفاع عن "ديمقراطية إسرائيل" وإنكار تعذيب سامي.

حاول إثنان من أكير المحامين بأمريكا وهما مونرو فريدمان وألان ديرشويتز تشويه القضية واختزالها في أن إعترافات سامي جاءت دون تعذيب.  كتبا في صحيفة النيويورك تايمز تحت عنوان "”Israel Torture,They Said ينفون التعذيب الإسرائيلي وأعلنوا شهادتهم بأن نظام القضاء الإسرائيلي من الأفضل في العالم

“It is our conclusion that Israel’s system , although subject to particular criticisms, is one of the most highly civilized and  refined in the world”

هناك من حاول اختزال قضية سامي إسماعيل وكأنها فقط انتهاك لحقوقه الإنسانية. ورغم أن الأمر كان كذلك قطعا، ولكنه كان أكبر من ذلك بكثير. فهي قضية اغتصاب وطن وأرض وشعب بل إعادة استعمار الأمة العربية وفرض هيمنة الدول الغربية وتسخير ثرواتها لها وضمان تخلفها وضعفها وتشرذمها.
نجحت الحملة وكان النجاح ذو شقين أولهما الإفراج عن سامي في أكتوبر 1978 وثانيهما شرح  الصراع العربي الصهيوني لجمهور واسع. فبعد أكثر من عشرة شهور وصل سامي إلي نيويورك حيث ذهبنا كوفد لإستقباله. كانت أعين سامي زائغتين وانتقص وزنه بدرجة ملحوظة. بعد يومين وصل سامي إلي إيست لانسنج حيث جامعة ولاية ميشجان و كان استقبالاً حافلا بالمطار. بعد فترة راحة استرد فيها عافيته البدنية والنفسية قام اسماعيل لأكثر من عام بجولات متعددة في أمريكا نجحت في فضح الطبيعة العدوانية للكيان وقدم شهادات مفصلة علي الممارسات الإجرامية ضد المعتقلين الفلسطينيين. للأسف أصيب سامي بمرض عضال ونادر فهل هناك علاقة بين ذلك والتعذيب النفسي والجسدي الذي تعرض له سامي؟

فيليشيا لانجر نموذج هام سيتكرر في المستقبل عندما ينهار الكيان بقيمه الفاسدة وعندما يندحر الاستعمار الاستيطاني الصهيوني  كما رحل نظيره من الجزائر بعد أكثر من مائة عام. إن الذي  يطيل عمر الكيان للأسف هم العديد من القادة العرب المتطواطئين مع الكيان منذ بدايته، ومن الزعماء المزيفين الذين يستغلون القضايا العربية لمصالحهم. لكن في نفس الوقت فإن القيادات الشريفة التي أعلنت أن زمن الهزائم قد ولي وأن الانتصارات قادمة هم الذين سيعجلون برحيل الصهيونية وأتباعها. قد يظن البعض ان هذا حلما غير واقعيا ولكن عندما يحدث ستكون فيليشيا من أوائل  الإسرائيليين الذين غادروا إسرائيل نتيجة لرفضهم المشروع الصهيوني بالكامل، والعيش في أرض مغتصية.

أ.د.محمد أشرف البيومي

أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشجان 30 يونية 2018