نعم من يقبل بـ“صفقة العار“ خائن

بقلم: علي الصالح

■ أتردد كثيرا في استخدام مصطلح "الخائن" وألوم من يستخدمه جزافا، وحتى عندما أضطر فإنني استخدمه في حالات نادرة جدا، وهذه المقدمة القصيرة ضرورية لأنني مضطر لاستخدام هذا المصطلح في هذا المقال لاحقا، استباقا للمؤامرات التي تحيكها الولايات المتحدة وبعض الأطراف العربية نيابة عن إسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني وقضيته المقدسة ممثلة بـ"صفقة القرن" التي يرى فيها حتى الإسرائيليون انحيازا تاما إلى دولة الاحتلال، وهناك من وصفها من الكتاب الإسرائيليين بصفقة نتنياهو.ثمة قناعة بأن نتنياهو هو من وضع بنود هذه الصفقة، وسلمها جاهزة لـ"الثالوث الصهيوني جارد كوشنر، وجيسون غرينبيلات وديفيد فريدمان" المسؤول عن متابعة ما يسمى "عملية السلام" لتغليفها وإعادة طرحها على أنها "صفقة ترامب".
هذا الانحياز الجديد يضاف إلى الانحياز المطلق لدولة الاحتلال، الذي كانت تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهذا يعطي القارئ فكرة عن شكل هذه الصفقة التي سرب الكثير من بنودها في الأونة الاخيرة، هذه الصفقة التي يتردد الأمريكيون حتى الآن في طرحها، لأنه ربما لم يجدوا بعد، النظام العربي الذي يجرؤ، على الأقل في الوقت الحاضر، على الموافقة على التخلي عن القدس ومقدساتها وملف اللاجئين والحدود، ليس حبا بالفلسطينيين أو القدس، ولكن خوفا من الشعب.
بيد أنني لا استبعد أن يتحمس نظام كنظام البحرين الذي كشف عن غرامه باولاد عمومته اليهود، ويتحمل المسؤولية الأولى قبل أن "تكر المسبحة الخليجية، ويُخلع برقع الحياء".
ويعمل الأمريكيون طبعا على إيجاد تخريجة لمبادرتهم المرفوضة فلسطينيا جملة وتفصيلا، ويسعون لإلباسها رداء "الإنسانية" التي حلت عليهم فجأة. لكن على الامريكيين أن يتسلقوا جدرانا بل جبالا كي يقنعوا قطاع غزة وأهله بمؤامرتهم الجديدة، هذا القطاع الذي لم يجد هذه "الإنسانية" لأكثر من 12 عاما لا عند الأمريكيين ولا غيرهم، هذا القطاع الذي لم يسمع خلال هذه السنوات العجاف والمعاناة، إحدى استغاثات أهله ومرضاه وأطفاله وجوعاه، ولم يحاولوا الضغط على دولة الاحتلال لتخفيف الحصار عنه!
أين كان الأمريكيون خلال هذه السنوات؟ وكيف استيقظ ضميرهم فجــــأة؟ ولو قبلنا بما يقولون، لكن الإنسانية كتلة واحدة غيــــر قابلة للتجـــزئة، فلمـــاذا لا يشعرون بهذه الأحاسيس "الإنسانية الطيبة" إزاء فلسطينيي الضفة الغربية الذين يـــرزحون تحت الاحتلال البغيض، بل آخر احتلال في العالم منذ أكثر من51 عاما؟
لا يحتاج المرء لخبرة سياسية حتى يصل إلى زيف "الإنسانية الأمريكية". والهجمة الشرسة التي بدأت تتسع رقعتها بالاعتداء على مستحقات أحد أعمدة العمل الوطني الفلسطيني، الشهداء والجرحى والأسرى، هي جزء من هذه المؤامرة للضغط على السلطة لوقفها، لغرض شيطنة نضال وثورة الشعب الفلسطيني، الذي يُعتبر الشهداء والأسرى والجرحى وقودها. ولا تقف دولة الاحتلال وحدها في هذه المؤامرة، فقد انضمت إليها إضافة للإدارة الامريكية استراليا، التي اوقفت مساعداتها المباشرة للسلطة وهناك تلميحات أوروبية في هذا السياق، ونشكر الله أن السلطة رفضت حتى الآن كل الضغوط وتصر على تسديد هذه المستحقات رغم ضيق الحال، ولم تجد بعد يدا عربية ممدودة لإخراجها من هذا المأزق المالي. وأمام هذه المؤامرة الكبرى التي يبحث عن مخرج فلسطيني أو عربي لها يدفعنا إلى استخدام المصطلح:
خائن من يقبل صفقة العار لتصفية القضية، خائن من يفرط في الثوابت الوطنية،
وخائن من يحاول أن يخرج على الإجماع الفلسطيني الرافض للمؤامرات الإسرو/ امريكية بتأييد أطراف عربية. وخائن من قبل أن يلعب دورا في روابط القرى التي انشأتها إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي كقيادة بديلة للشعب الفلسطيني، وخائن من يشارك في صورتها المستنسخة في القرن الواحد والعشرين لتجاوز منظمة التحرير رغم اخطائها وهي كثيرة، ورغم انتقاداتنا لها ومهما بلغ ترهلها. وخائن من يعتقد أن الشعب الفلسطيني يقبل بقيادة مفروضة عليه من الخارج.
نعم خائن من يظن أن إدارة ترامب وحكومة إسرائيل تسعيان لتخفيف معاناة شعب غزة عبر مشاريع وصفتاها بالإنسانية تمولها أطراف عربية، حبا بأهل غزة الذين يتذوقون يوميا طعم الحصار الظالم منذ اكثر من12 عاما. وخائن من يبيع الأرض بحفنة دولارات. وخائن أيضا من يفرط بالقدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة. خائن من يقبل بقرية ابو ديس بديلا للقدس الشرقية، عاصمة لدولة فلسطينية،
وبالتأكيد خائن من يقبل بإسقاط قضية اللاجئين وعودتهم وفق القرار الدولي 194،
وخائن من يظن أن الشعب الفلسطيني يمكن أن يباع ويشترى بالمال.
بالمناسبة فإن الرخاء والمال الذي يعد به ترامب غزة، سيكون من "حر مال العرب" وكما يقول المثل "من دهنه وقليه".
لن يقبل الشعب الفلسطيني بعد قرن من النضال والتضحيات وثورات وانتفاضات لم تتوقف حتى اللحظة، أن تعاد قضيته إلى المربع الأول، والتعامل معها كقضية إنسانية وقضية لاجئين، وقضية تُشترى بمئات ملايين الدولارات، أو حتى مليارات الدولارات، بعد كل هذه التضحيات ومئات الألوف من الشهداء والجرحى والأسرى، دفع هذا الشعب الغالي والرخيص لكي يثبت للعالم أجمع أن قضيته، ليس قضية كيس طحين تقدمه وكالة غوث اللاجئين "الأونروا" التي يحاولون أيضا القضاء عليها، لأنها تذكرهم بجرائمهم، بل قضية أرض وشعب وحقوق وطنية بامتياز، ولن يقبل الشعب الفلسطيني أن يعود به الأمريكيون والإسرائيليون إلى الوراء.
لن يقبل هذا الشعب المقدام البطل التنازل عن حقوقه المشروعة في تقرير المصير، بعد أكثر من قرن من الزمن من التضحيات والمعاناة، أي منذ وعد بلفور الذي لا نزال ننتظر تنفيذ الوعود الفلسطينية بمقاضاة بريطانيا على جريمتها النكراء، وتخللته ثلاث حروب عربية إسرائيلية (1948 ـ1967 ـ 1973) وحرب لبنانية- فلسطينية/ إسرائيلية (1982) وثلاث حروب إسرائيلية على قطاع غزة (2008 ـ 20012ـ 20014)،
واختتم بفقرات من مقال للكاتب الصحافي البريطاني روبرت فيسك المختص بشؤون الشرق الأوسط نشرته صحيفة "الإندبندنت"، وبالمناسبة فان فيسك هو من أوائل الصحافيين الأجانب الذي كتبوا عن مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت على أيدي قوات الكتائب اللبنانية وبإشراف وحماية جيش الاحتلال، في سبتمبر 1982.
"بعد كل هذه الحروب وعشرات آلاف الشهداء وملايين اللاجئين، هل يتوقع كوشنر صهر الرئيس ترامب ومستشاره، أن يقبل الفلسطينيون بصفقة القرن، بعد اتفاق اوسلو، وبعد حل الدولتين، وبعد كل سنوات الاحتلال الاسرائيلي لمناطق "أ" و "ب" و "سي" لتحديد نوعية الاحتلال الذي يجب أن يعيش تحته الفلسطينيون، وبعد الاستعمار اليهودي الواسع لأراض اختلسوها وابتزوها من اصحابها العرب، وبعد عمليات القتل الجماعي في قطاع غزة وقرار ترامب الاعتراف بالقدس بشقيها الشرقي والغربي، عاصمة لدولة إسرائيل، بعد كل ما تقدم هل سيُطلب من الفلسطينيين أن يقبلوا بحل مقابل المال وقرية تعيسة يسمونها القدس؟ ألم يتبق هناك قليل من الحياء، الفلسطينيون سيمنحون قريبا خاتمة الصفقات، فإما أن يأخذوها كما هي أو يرفضونها كما هي. قرية مخجلة كعاصمة، ولا نهاية للاستعمار، ولا امنا ولا جيشا ولا حدودا مستقلة، ولا وحدة. المقابل مبلغ ضخم من المال، مليارات الدولارات واليوروات وملايين الجنيهات وزيليونات من الدنانير والشواكل".
قال ولي العهد كوشنر هذا الأسبوع "أعتقد أن الشعب الفلسطيني أقل استثمارا في ما يقوله السياسيون، من رؤيته لكيف يمكن لصفقة أن تقدم له وأجياله القادمة فرصا جديدة، وظائف أكثر ورواتب أفضل وفرصا لحياة أكثر رخاء.
هل يعيش صهر ترامب، وهما، فبعد ثلاث حروب عربية إسرائيلية وعشرات آلاف القتلى الفلسطينيين وملايين اللاجئين، هل حقا يعتقد جارد أنهم سيقبلون بتسوية مالية؟ ألم يلاحظ أن الفلسطينيين الذين احتجوا وعانوا واستشهدو وفقدوا أراضيهم لسبعين عاما، لم يتظاهروا في الشوارع من أجل طرق أفضل، وأسواق حرة أو مطار آخر؟ هل يعتقد أن أهل غزة خرجوا إلى الشوارع وزحفوا نحو السياج الفاصل الفتاك، طلبا لعيادات أفضل؟".
كيف يمكن له أن يهين شعبا عربيا برمته باقتراحه أن حريتهم وسيادتهم واستقلالهم وكــــرامتهــم ودولتهم هي مجرد حديث ســــياسيين؟ أليس هناك حد لهذا الجنون"،
وهو فعلا كذلك، فهل يستيقظ الغافلون؟

علي الصالح

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"