ليس يكفي أبدا أن تكون بطلا في المواجهة المباشرة مع عدوك بل عليك ان تعرف كيف تكون بطلا في الطريق إلى هناك فالبطولة ليست في القدرة على احتمال الموت بل في القدرة على احتمال الحياة
ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس متابعة للتحليل والدراسة والبحث في موضوعة اللاعنف ولكن ما جرى من أحداث عادية جدا وتحدث آلاف المرات مع آلاف الناس يوميا وهي الرحلة التي قطعتها من جنين إلى عمان للمشاركة بندوة كتابي " الفكر عي الفعل " الصادر عن الآن ناشرون وموزعون في عمان وقد شارك في الندوة الدكتور زهير توفيق والأستاذ الدكتور سليمان الطراونة بإدارة الدكتور باسم الزعبي.
كانت الساعة السادسة صباحا حين انطلقت سيارتنا من جنين باتجاه الجسر وقد كان الهاجس الأول لي وزميلي في الرحلة هي كيف يمكننا تجاوز أزمة الجسر المعتادة في يوم الأحد وفي سبيل ذلك بدأنا حملة اتصالات محمومة للتفتيش عمن يمكن له أن يساعدنا في ذلك الى ان وجدنا صديقا لنا يعرف صديقا له على معرفة بصديق آخر له نسيب صديق لشخص آخر له قريب متزوج من عائلة موظف يعمل على المعبر فاستراحت أمورنا بعد ان افهمنا ان الموظف المذكور متواجد على المعبر وهو على علم باسماءنا وسيقدم لنا يد العون هناك ويساعدنا في تجاوز المئات ممن سبقونا في الوصول إلى المعبر.
على بوابة الاستراحة سلمنا شرطي بشوش بطاقتين مرقمتين بدورنا وحين دخلنا إلى القاعة اكتشفنا أن علينا انتظار خمسمائة شخص يحملون أرقام تسبقنا فتوجهنا فورا للبحث عن واسطتنا الذي بدا واضحا على محياه انه لعن الساعة التي جعلته يتزوج من تلك السيدة القريبة لمن وضعه في هذه الورطة أمام نفسه وأمام زملائه وأمام جمهور المنتظرين وعلى مضض واضح قدم لنا فنجان قهوة سريع وتجاذبنا أطراف حديث متقطع بانشغال الحضور بأجهزتهم الخلوية وما تعرض من أخبار والعاب وأفلام وأغاني وما شابه إلى أن اعتذرنا واقفين فرافقنا مرة أخرى إلى القاعة التي كانت تعج بالمنتظرين رجالا ونساء وأطفال ورضع وشيوخ وبعضهم عاجزين بحاجة لمن يسندهم وقد يكون بعضهم مرضى أو على عجلة من أمرهم أكثر منا بكثير وبخجل قد يكون كاذبا وأنا العن نفسي على ما فعلت واقسم إنني لن أكررها مهما حصل ودون ان انظر في عيون المنتظرين تقدمنا الصفوف وخرجنا إلى موقع إجراءات الخروج النهائي.
عليك أن تدفع 153 شيكل احتلالي للخروج من بلدك وقد يكون هذا رقم فلكي بالنسبة لدول العالم وشعوبه ورقم أكثر فلكية أجرة الباص الذي سيقلك مسافة لا تزيد عن خمسة كيلو مترات وكغيرنا القينا بفضلات الأوراق والتذاكر والسائر على الأرض فهي تشجعك لفعل ذلك وأنت ترى عامل النظافة ينقل الأوراق وأعقاب السجائر وعلب الكولا نصف الفارغة وعلب السجائر من مكان الى مكان في زوايا القاعة دون ان يكلف نفسه عناء الانحناء لرفعها عن الأرض وقد لا أبالغ إن قلت أن بلاط تلك القاعة كان مغطى بالكامل بالنفايات.
الغريب أن بطاقة الباص تحمل تعليمات تشير إلى عدم مسئولية شركة الباصات عن أمتعتك مهما حصل لها من خراب أو تلف أو حتى فقدانها بالكامل ومع ذلك عليك أن تدفع لهم أجرة نقلها كما يريدون دون أدنى مسئولية من قبلهم اللهم إلا مسئولية قبض الأجرة فقط.
في الباص يبدو ان الركاب يعرفون جيدا ما تفعله شركة الباصات فقد سعوا جاهدين لأخذ ثأرهم بالتخريب والإساءة للمقاعد وغيرها انتقاما من شركة الباصات بكل شكل ممكن ويبدو أن شركة الباصات تعرف ذلك لذا سارعت إلى رفع الأجرة بما يكفي للتخفيف من جرائم التخريب المتعمد وحين سالت احدهم عن سبب إعلان الشركة عدم مسئوليتها عن ضياع الأمتعة او تلفها ضحك وهو يجيبني " مش رح نلحق بلاغات عن ضياعات وهمية " وتابع " عالم كذابة ".
المهم أن الانضباط الوحيد كان في عدم إمكانية حمل راكب واحد إضافي وحين أصر احدهم على الصعود للباص لان عائلته جميعا قد سبقته قال له السائق مستحيل فسلطات الاحتلال لا يمكن أن تسمح لباص يحمل راكب واحد بلا مقعد من المرور فضحكت من أعماقي حين وجدت أن الالتزام الوحيد هذا لا علاقة لنا به على الإطلاق.
خمسون راكبا كانوا جميعا موجودين على المعبر الفلسطيني تركوا خلفهم كل النفايات الممكنة لعامل قرر ان لا يساعد من لا يرغب بمساعدة نفسه فجعل من اللعب النفايات على ارض القاعة متعة له لا عملا ينجزه ليتركها تتراكم فوق بعضها وهو يحركها من مكان إلى مكان لا أكثر ولا اقل.
نحن والباصات التي سبقتنا وصلنا الى نقطة الاحتلال لننتقل فجأة إلى أوروبا بمسافة لا تزيد عن 2 كم فقط بنفس الناس وقد يكون نفس عاملي النظافة أو أنهم بالتأكيد من نفس البيئة التي جاء منها عمال النظافة الذين تركناهم خلفنا لنجد أمامنا مكانا نظيفا بما لا يصدق بكل مرافقه ولنتحول نحن أنفسنا الى بشر مختلفين فلا احد يلقي ورقة إلا في سلة المهملات ولا احد يشعل سيجارة أصلا ولا احد يخرج عن طابور الشباك مع أن شيئا لم يتغير سوى أن من يشرف على المكان هو عدونا الذي يصر على أن يتمايز عنا بكل شيء ويصر على أن يظهر لنا الفرق بيننا وبينه بشكل لافت ومهين لنا ومصر على أن يقنعنا انه اقدر منا بكل شيء ويصر على أن يثبت لنا عجزنا عن إدارة شئون حياتنا بما يليق بنا كشعب يقدم نفسه كضحية واعية مدركة مؤمنة بحقها مقابل عصابات من اللصوص والمرتزقة وسارقي أرضنا وحقوقنا.
لم نحتاج هناك ( عند الأعداء المحتلين لأرضنا " لأي واسطة على الإطلاق وحتى لو احتجنا فلن نجد فهناك لا مجال للواسطة والمحسوبية ولا بأي حال من الأحوال اللهم إلا لمسافري ال " في اي بي " ممن يحملون بطاقات خاصة أو يدفعون مبالغ طائلة مقابل تميزهم عن غيرهم, وطوال الطريق كانت كلمات كتابي عن الفكر والفعل تقفز أمامي عند كل صورة وكانت مقالاتي عن اللاعنف تدق في راسي عن كيف يمكننا أن نتميز عنهم ا وان ننتصر عليهم ونحن حتى لا نحاول أن نخطو خطوة واحدة ايجابية إلى الأمام, كيف يمكن لشعب يصر حين يكون وحده على أن لا يتصرف إلا بفوضاه وحين يخضع لسلطة عدوه يصبح مثالا بالنظام إلى أن يبتعد عن تلك السلطة فيعود إلى طبيعته, ذلك أيضا تكرر على الجانب الأردني من الجسر للاسف فالحديث عن النظافة والنظام يشابه حالنا في الجانب الفلسطيني, مع أن نفس المسافرين والعابرين والعاملين هم من مروا واستخدموا المواقع الثلاث ولكنهم تلونوا حسب إدارة المكان بلا خجل والغريب في الأمر أنني تذكرت جيدا ما شاهدته في مطار الملكة علياء الدولي في عمان من نموذج راقي للنظافة والترتيب والرقي بكل أشكاله وهذا يعني أن بإمكاننا أن نكون كذلك فلماذا لا نفعل إذن ومن يتحمل مسئولية ذلك, في رام الله وحول المقاطعة تجد مكانا نظيفا راقيا مرتبا وجميلا وكلما ابتعدت عن المكان اختفت الصورة وحلت مكانها صورة مختلفة وكلما ابتعدت عن رام الله ازدادت الصورة قتامه وهو أيضا ما تلاحظه حين تخرج من عمان أو حين تبتعد عن الاحياء الراقية في القاهرة أو في اية دولة عربية أخرى.
في احد خطاباته اشتكى الرئيس الفلسطيني محمود عباس من بعض التصرفات وضرب مثلا عن كيف يرفض الفلسطيني وضع الحزام لحماية نفسه في سيارته حين يكون في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية ويسارع إلى الالتزام بذلك فور تواجده في مناطق يسيطر عليها جيش وشرطة الاحتلال والأمثلة على هذا النمط كثيرة فلماذا نفعل ذلك بذواتنا وكيف نسعى للنصر على أعداء يسبقوننا حتى بسلوكنا اليومي فيما يخص شأننا.
ليس يمكنك أن تنتصر على جهة تدفعك رغما عن نفسك لاحترام قواعدها وقوانينها وسلوكها فلا يمكنك أن تهزم جندي الاحتلال وهو يراك تصبح غيرك حين تكون في نطاق سلطته احتراما لسلطته لا إيمانا بما تفعل.
لقد قدم شعبنا نماذج ينحني لها التاريخ في الصمود والمقاومة والموت دفاعا عن الوطن وفي سبيل تحريره وسيبقى هؤلاء الأبطال من الشهداء والجرحى والمنفيين والأسرى نماذج بطولة بذاتهم تجعلنا نبكي ذواتنا لأننا لم نحترم إرادتهم ولم نحاول يوما أن نكون على مستوى تضحياتهم وبطولاتهم وكل ما أرادوا منا على الأرض أن نستقيم في سلوكنا وان نضرب بذواتنا مثلا ساميا يجعل الأعداء ينحنون أمامنا وأمام إرادتنا في سبيل الحياة التي سقط الآلاف في سبيلها, فليس يكفي أبدا أن تكون بطلا في المواجهة المباشرة مع عدوك بل عليك أن تعرف كيف تكون بطلا في الطريق إلى هناك فالبطولة ليست في القدرة على احتمال الموت بل في القدرة على احتمال الحياة, ذلك أن الحرب على الأعداء ليست حين تلتقيه في المعركة من بندقية لبندقية بل قبل ذلك وبعد ذلك حين تلتقيه بما تفعل على الأرض لذاتك وبذاتك بعيدا عنه وحين يدرك انك سيدا في السلوك الذي تؤمن به وتفعل ما تقول فلا يكفي أن تغني للقدس والوطن ولا تسعى أبدا ولا بأي حال من الأحوال لجعل الغناء صورة لواقع فعل وبناء فالتغني بالورد دون اشتاله ورائحته محض وهم لا يدوم كما أن التغني بالقدس دون الصمود بها والذود عن حجارتها واستبقاء ناسها بها لا يمكن له أن يكون أداة نصر ففي حين يستقطب الاحتلال المرتزقة من كل بقاع الأرض لتهويد القدس ناسا وحجارة بكل السبل ويخضع في سبيل ذلك كل الإمكانيات يسارع المقدسيون لمغادرة القدس والسكن في الضواحي مثل العيزرية وكفر عقب بهدف حماية طاقة هوية الاحتلال دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الاهتمام بتقديم أنفسهم بشكل يليق بالقدس وناسها فكفر عقب لمن يراها نموذجا عجيبا لكل فوضى وتنتشر بها النفايات والفوضى بكل أشكالها ونحن نعرف أنها تحولت إلى معبر لتهريب سكان القدس غدا عند أول مفاوضات قادمة سنجد الاحتلال تخلى عنها كجزء مزعوم من القدس وبالتالي سيكون قد تخلص من عشرات آلاف المقدسيين ناهيك عن مأساة تهويد القدس وتفريغها من أهلها لصالح المستوردين من المرتزقة المحتلين.
لماذا بذلنا جهدا كبيرا للوصول إلى واسطة لعبور الجسر وضربنا بكل المحتاجين للمرور قبلنا وحقهم عرض الحائط, لماذا القينا بكل نفاياتنا على الأرض في بيتنا وحرصنا على حماية القطعة التي يحتلها الأعداء من نفاياتنا, لماذا نبحث عن واسطة لتقديم دورنا بعملية جراحية في مستشفى وننسى أن هناك مريضا في خطر اكبر وحاجة اكبر منا, لماذا نلعن الغش والغشاشين وحين يمسك بأحد أبناءنا يغش في امتحانه المدرسي او الجامعي نستحضر كل واسطة ممكنة للعفو عن الغشاش الذي سيصبح ذات يوم صاحب قرار لمستقبلنا, لماذا نلتزم بالقوانين على طرق المستوطنات وفي المدن المحتلة عام 1948 ونضرب بكل هذه القوانين عرض الحائط حين نكون نحن أصحابها ولا يعنينا أبدا نظافة عتبة البيت التي نسكن به, لماذا نحتاج إلى واسطة للعلاج وواسطة للتعليم وواسطة للسفر وواسطة لكل فعل بما في ذلك ابسط معاملة في ابسط دائرة في الوطن ولماذا حين يعمل بعضنا في مشاريع الاحتلال يبدع ويتقن عمله وحين تستعيده ليبدع لبيته تراه يفعل العكس إن لم يكن أسوأ, فأي نصر هذا الذي نسافر إليه بمثل هذه العدة المهترئة من ذات تحارب ذاتها بذاتها حريصة كل الحرص على أن تبدو وكأن الصدق والنظافة والالتزام والقوانين والحضارة ة والنزاهة والاستقامة محض خرافات تشبه الغول والعنقاء أو أنها سلعة غريبة لا تحتاجها أبدا.
حين تستقيم أمور ذاتك مع ذاتك وتصل أنت بذاتك حد احترام ذاتك فكرا وسلوكا ونمط حياة وتؤمن بأنك حقا تتفوق على أعداءك وقتها فقط تكون قد ضربت بذاتك نموذجا سيحير الأعداء من أين سيخترقون جبهتك وينطبق عليك المثل القائل " امشي عدل يحتار عدوك فيك ".
في الندوة التي عقدتها دار الآن ناشرون وموزعون في عمان لكتابي الصادر عنها " الفكر وعي الفعل " قال أستاذي الكريم الدكتور سليمان الطراونة أننا مثقفون ومتعلمون أكثر بكثير من الشعب الأمريكي وان الأمريكي لو سألته عن الأردن لأجابك أنها قرية أمريكية ونسي أستاذي الكريم أن هؤلاء هم من يحتلون العراق وليبيا وأفغانستان وعديد الدول في العالم ويقتلون الشعب السوري علنا ويهدون أرضنا ومقدساتنا لغيرنا ويديرون العالم على هواهم ويقررون سعر كل شيء وشكل كل شيء ويمنعون البيع والشراء عمن يريدون وهم بالمناسبة مرتزقة محتلين لأمريكا لا أهل لها فلا يوجد بأمريكا أمريكيين إلا أولئك المحبوسين بمحميات خاصة بسكان البلاد الأصليين المغلوب على أمرهم حد أننا نحن المحتلين كحالهم وغيرنا ممن يخضعون لظلم ظالميهم لم نعد نمر على ذكرهم فأي غباء هذا الذي يستولي على العالم وإذا كان من يستولي علينا ويحكم بأمرنا أو نحكم بأمره غبيا لهذا الحد فما حالنا نحن اذن يا ترى من نقبل بسيطرة الأغبياء ونستكين لهم بل ونغازلهم ونحلم بجنسياتهم وفي مقدمتنا العلماء والمبدعين والمعارضين فيا ويلنا من حالنا.
بقلم/ عدنان الصباح