حكاية نصراوية

بقلم: نبيل عودة

اعترف أني لا اعلم هل مقولة "لا دخان بلا نار" صحيحة؟

من ناحية علمية حصل تقدما هائلا في العلوم والتكنولوجيا منذ قيل المثل المذكور. ليس سرا مثلا ان هناك قنابل دخانية بلا نار، فهل يعتقد البعض ان الدخان بلا نار هو اعجوبة لم يقم بها حتى الساحر البارع هوديني؟ او انها قنبلة لتفريق التجمهرات غير القانونية بإرعاب المشاركين بصوتها ودخانها؟

هي حقا اعجوبة نصراوية بامتياز، وتعجب بعض السفسطائيين النصراويين (سفسطائي تعني "شخص مموه بالحكمة" – يعني بالعربي الدارج "راس كبير وعقل حمير")، فليس أسهل على من يتقنون فن التضليل والتلويث الفكري من ان يخترعوا بدعة لا أصل ولا فصل لها، وربما كانت مناقضة بشكل واضح للعقل، وامثالنا العربية لم تقف مكتوفة الأيدي بل نجد مثلا يقول: "لم يبقَ في المكان إلاّ دُخانه".

حين فتحت قواميس اللغة العربية تفاجأت بكثرة الاشتقاقات من كلمة دخان، وها انا امتع محبي الدخان بمفردات لغتهم لعلها تفيدهم فيما تطمع له نفوسهم من جعل الدخان مادة مرعبة حتى لو كانت بلا نار.

من المفردات المشتقة من الدخان، وليس من الرعب الذي يسببه الدخان، جمعت المفردات التالية: دخان أَدْخَنَ أدخِنَة تَدَخَّنَ تدخين دَخَن دَخْنَاءُ دَوَاخِنُ دَوَاخِينُ دُخْنَة دُخّان دُخانة دُخانيّ دُخون داخِن مَداخِنُ مَدخَنة مُتدخِّن مُدَخَّن. اقسم ان المفردات لوحدها تجعلني ارتعب من كل دخان مهما كان مصدره، ان كان بسبب النار او بدون نار.

طبعا أتوجه للغويين ان يمدوني بما فاتني جمعه من مفردات الدخان. لكن لا بد من إضافة حتى تكتمل صورة "لا دُخان بلا نار"، اذ تقول العرب "لا إشاعة بدون مصدر أو أساس تنطلق منه"، مع الأسف اغلب الشائعات لدى العرب لا مصدر لها، وهي أشبه بانتشار الدخان حتى لو لم يكن مصدره النار، يبدأ من لا شيء ويختفي كما ظهر لأنه أصلا لم يكن الا شيئا طارئا. وبالتالي لا رعب بدون مواجهة تنافسية، الا عند من صار عقله مجرد كومة قش مثل المموه بالحكمة، إذا أشتعل القش (أي عقله) يزكم انوفنا برائحة دخان تنفع لتفريق المظاهرات من قوة ما تسبب من اختناق ورعب.

يبدو أحيانا ان للحكاية جذور مخفية، لكنها لا تخفى عن كاتب هذا المقال، ويبدو ان الذكاء قد حل على البعض بعد ان طيرت العشوش فراخها، وخاصة على سفسطائي مغمور، لكني اتعهد له ان أجعله مشهورا إذا ما نقلت عنه قصته.

الحكاية قديمة، كان السفسطائي صاحب حمار يتنقل به بين حزب قومي عربي وحزب صهيوني يهودي، رغم ان الحواجز كثيرا ما تغلق الا انه متقد الذكاء ودائما يجد طريقة للدخول والخروج من والى وهو راكب على حمار.

عُين قائد جديد للحاجز ولاحظ ان جنوده يعطون لراكب الحمار حق المرور وقتما شاء وكيفما شاء، دخولا وخروجا، وتساءل: ترى ماذا ينقل على حماره؟

كان السفسطائي يبدو فقيرا وبائسا مثل حماره، لكن المثل العربي يقول "يا ما تحت السواهي دواهي" والقائد تعلم ان لا يثق بالمنظر البائس .. لأي عربي.

راقب مرات عديدة عبور الحمار وراكبه البائس دخولا وخروجا، وكيف يرحب به الجنود ويناولهم من خرج الحمار علب لم يعرف في البداية ما هي. قرر ان يفحص ما يجري.

لم يكن صعبا ان يكتشف ان راكب الحمار يقدم هدايا من علب دخان فاخر لجنود الحاجز وهذا أشبه بتصريح مرور. غضب القائد وطلب ان يحضر السفسطائي صاحب الحمار الى مكتبه.

- كيف تنجح بالمرور رغم ان الحواجز القومية بيننا مغلقة؟

- يا سيدي انا رجل فقير يشفق على الجنود فأمر.

- لكني وجدتك تبرطلهم بدخان فاخر؟

- يا سيدي هذا لا شيء بل حسنة لمن يرحموني ويجعلوني أعبر.

- هذا مخالف للقانون وستعاقب عليه.

اخرج السفسطائي ربطة دخان أمريكي فاخر وقدمها هدية للقائد.

* ما هذا صرخ القائد؟

* هدية صغيرة من رجل غلبان؟

تأمل القائد ربطة الدخان، وحسب ثمنها، ووجد انها أكثر من معاش يومين في الشهر. سأل:

* كيف تنجح ان تقدم هدايا دخان وانت فقير وتدب على عصا ولا تملك سيارة فاخرة بل مجرد حمار متهالك مثلك؟ كيف تربح الأموال لشراء هذا الدخان الفاخر؟

* اصارحك القول سيدي القائد على شرط ان لا تمنعني من المرور وسأقدم كل السجائر التي احضرها لحضرتك فقط؟

* حسنا .. اتفقنا.

* يا سيدي انا مجرد تاجر حمير، اشتري من الحزب القومي العربي حمارا عجوزا قربت نهاية أجله بسعر بخس جدا، وانتقل به عبر الحاجز الى رجال الحزب الصهيوني الذين يشترونه بمبلغ كبير ليلعب عليه الأولاد او يربطونه بحدائقهم ليشاهده من لم يروا حمارا في وطنهم السابق. وقبل عودتي اشتري حمارا صغير العمر وابيعه للحزب القومي بمبلغ كبير، بذلك احقق أرباحا كبيرة وشهرة كبيرة أني تاجر حمير بارع. وهكذا سيدي أكرر شراء حمير متهالكة وابيعها للجانب الصهيوني واشتري حمير شابة وابيعها للجانب العربي .. ولعلمك سيدي بسبب كثرة المخالفات أصبحت تجارة الحمير مربحة جدا .. وخاصة ان الحمير لم يشملها قانون القوميات، وهي معفية من الترخيص السنوي ومن التأمين والصيانة الميكانيكية، ولا تشملها مخالفات السير .. فلا أحد يميز بين حمار عربي وحمار يهودي .. لذا يجري التعامل مع الحمير بمساواة كاملة.

* اذن لي ربطة دخان مع كل دخول وخروج؟

* بل ربطتين سيدي القائد!!

بقلم/ نبيل عودة