بتاسيس السلطة الفلسطينيه التي أقرتها اتفاقات اوسلو والتي أوقعت الحالة الفلسطينيه في مأزق سياسي ووجودي ما زلنا شاهدين على إرهاصاته يومياً في فلسطين المحتله، لم يتم البدء فقط بالإجهاض على م ت ف ومكوناتها بل اصاب كل الفصائل الفلسطينيه في نخاعها الشوكي وأدخلها في متاهات سياسية برنامجيه وأيدولوجية ايضاً.
المأزق الأكبر والأكثر تعقيداً وقعت به حركة فتح، كبرى الحركات الفلسطينيه وعمود النضال الفلسطيني منذ ولاده م ت ف عام ١٩٦٥.
حركت فتح اصيبت في داء السلطة والدوله … استلمت ربع سلطة وشبه دوله ممسوخة وتأرجحت بين النضال من اجل التحرير وبين ممارسة السلطة.
الحنكة السياسية والدهاء التكتيكي للرئيس الراحل ياسر عرفات لم يستطعا الحد من انزلاق رموز معروفه في حركة فتح في دوامة "تقاسم الغنيمة" ولعب رجال دولة على النمط الشرقي وتضخمت عوارض المرض. وزاد هذا التفاقم بعد تقلد الرئيس محمود عباس رئاسة الحركة ورئاسة السلطة الفلسطينيه...
أصاب حركة فتح مرض تفشى من قبلها وما زال شائعاً في الأحزاب الحاكمة في الشرق وفي معظم الدول الناميه: مرض الخلط بين تقلد مهام السلطة لخدمة شعب الدوله لفترة زمنيه يحددها الدستور وتنهيها إرادة الشعب في الانتخابات وبين امتلاك الدوله ومواردها.
حركة فتح بدأت ومنذ يومها الاول بالسلطة بالتصرف وكأنها تملك فلسطين شعباً وإرضاً وهواءاً … هكذا كنّا نقرأ تصريحات رموزها وهكذا سجل التاريخ ما قام به العديد من رموز الحركة من انتهاك للمال العام واستغلال موقعهم في السلطة لتكديس الثروات دون محاسب ودون مُسائل وكأنهم يتصرفون في بيت ومال يخصهم وحدهم … نظرة سريعه الى الواقع في فلسطين المحتله يظهر لنا ارهاصات هذه الانتهاكات التي ما زالت مستمرة. منذ قيام السلطة وحتى يومنا هذا… معظم من الذين أسسوا شركات وأقاموا علاقات تجارية مميزه أو أخذوا وكالة لشركة اجنبية هؤلاء كانو من أبناء الحركة او تحركوا في فلك السلطة وربطتهم علاقة بحركة فتح … ملفات الفساد بقيت أكثرها دون حل ودون نتيجة ... معظم المراكز والوظائف في السلطة تُسلم لكوادر الحركة أو لهولاء الذين كسبوا رضاء قادة الحركة وهذا لا يقتصر على المراكز العالية بالسلطة بل يطال وظائف بسيطه عادية أيضاً… سفارات فلسطين ومقراتها بالخارج أصبحت ملك لفتح ولكوادرها ولمن دار بفلكهم... التقديرات تقول بان اكثر من 80% من موظفي السلك الدبلوماسي الفلسطيني من حركة فتح او مِن مَن لف بفلكهم ... هذا كان قبل طرد مئات من كوادر الحركة من قبل حماس بعد انقلابها العسكري على الرئيس محمود عباس، هذه الكوادر لاقت ملاذ لها في سفارات فسطين في العالم وأصبحت جزأ من الطاقم في هذه السفارات... وأصبحت المقولة الشائعة بين الفلسطينيين بان شرط استلام وظيفة ما تتطلب قبل كل شيء رضاء حزب السلطة من الشخص قبل النظر بمأهلاته، هي الحالة الطبيعيه…
لم يقتصر الامر على المال والمراكز بل الهيمنه والعنجهيه وإدارة الظهر للإجماع الوطني وتجاوز قرارات مؤسساته اصبح الواقع المخيم على الحالة الفلسطينيه …في هذا الجو تتعامل فتح يومياً مع الشعب وهكذا تفهم مسؤوليتها بإدارة السلطة … الولاء الأعمى لحزب السلطة ورئيسه هو المقياس الوحيد… حركة فتح أصبحت تعمل حسب المثل العربي القائل : من اكل من خبز السلطان عليه ان يضرب بسيفه…!
هذا المبدأ التعسفي الرجعي في الهيمنه على السلطة وسوء إدارة الحكم لم يطل فقط "الاعداء" من الفصائل الاخرى بل طال ايضاً كل من سمح لنفسه من رموز الحركة ان يضع علامة استفهام على تصريحات رئيس الحركة محمود عباس ... هذا ما حصل مع ناصر القدوه وفارس قدوره وعيسى قراقع ومحمد دحلان واخرون كثار…من أراد مركزاً في فتح أو سلطة فتح عليه ان يكون خادم ابصم اخرس اعمى …ولا تفهم حملات "مبايعة" الرئيس محمود عباس الا في هذا السياق. الرأي الحر والموقف الوطني الوحدوي الصادق أصبحا مصطلحات منبوذة بالحركة ولا مكان لاصحابهما في الصف الاول للحركة… كلمة الرئيس أصبحت مقدسه ولا يقبل تأويلها هذا ما حصل عندما تنازل الرئيس علناً امام وفد صهيوني عن حق العودة وهذا ما حصل عندما قدس التنسيق الأمني مع الاحتلال وعندما تناسى رمز الثوره الفلسطينيه ومؤسس الحركة الراحل الرئيس عرفات في كلمته امام المجلس الوطني الأخير … قطيع الحركة أيد الرئيس بمديحه الشقيري وتناسيه للرمز ياسر عرفات بالتصفيق … فتح اضاعت البوصلة.
برحيل القائد ياسر عرفات فقدت الحركة رمزها وقوتها ووحدتها وتحولت الى "مول سياسي" shop in shop… يتكون من دكاكين صغيرة لرموز الحركة ويدير هذا المول الرئيس محمود عباس. اصحاب الدكاكين الفتحاويه راضون عن المدير العام للمول من مبدأ رابح رابح… ومن يعترض يتم اقصاءه عن المول السياسي الفتحاوي… حرب وراثة المدير العام للمول بدأت منذ سنوات… وها نحن نرى اصطفافات اصحاب الدكاكين الفتحاوية وكل منهم يشهر سيفه ضد "الاعداء" من فصائل الثوره الفلسطينيه ليقدم بمواقفه اللاوطنيه أوراق اعتماده لممولي سلطة فتح…
العمود الفقري للقضية الفلسطينيه، حركة فتح، انكسر ولا منقذ بالافق …
قوة هيمنة حركة فتح على الساحة الفلسطينيه ليس نابع من تماسكها وووحدتها ووضوح برنامجها السياسي …قوتها هي نتاج ضعف الآخرين من حركات يساريه وطنيه وليبرالية فلسطينيه وحركات اسلاميه… فتح قصر من ورق لا يهتز من تصريحات واستنكارات الطرف السياسي الاخر بالساحة الفلسطينيه…
الاسلام السياسي وعلى راْسه حركة حماس قد أصيب بذات المرض، السلطة والدوله، الذي اصاب من قبله حركة فتح ووقعوا في نفس الفخ وأعادوا نفس الأخطاء من المحسوبية والطاعه العمياء للحركة وتقاسم الغنيمة … واليسار الفلسطيني حدث ولا حرج… انقسام داخلي في معظم الفصائل خصوصاً في الجبهتين الشعبية والديمقراطيه وحزب الشعب.والمبادرة الفلسطينيه لم تخرج حتى الان من حزب البطل الواحد… اليسار الوطني تحول من شريك بالثوره والقضيه والبرنامج السياسي الى تابع مشرذم … فقد استقلاله وفقد بوصلته السياسيه وتحول الى حركات استنكار وبيانات… هذا اليسار لم يقدم نفسه حتى اليوم موحداً بديلاً لهيمنة فتح في الضفه وهيمنة حماس في غزه واستكفى في رفع شعار الوحدة الوطنيه الرنان دون طرح برنامج سياسي بديل يتجاوب مع الواقع الجديد في فلسطين المحتله وفِي مخيمات اللجوء في الإقليم وآخر المستجدات على الارض المحتلة عام 48…
اليوم تعقد حركة فتح اجتماعاً للمجلس المركزي ل م ت ف بمشاركة حزب الشعب وحركة فدا اللتان تم شراء مشاركتهم بفتات من اموال الصندوق القومي الفلسطيني … يعقد المجلس المركزي تكملة لمسار المجلس الوطني الأخير لتعميق الانقسام الفلسطيني وترسيخه…فلا برنامج سياسي جديد ولا تراجع عن مسار اوسلو الهدام ولا أجوبة على متطلبات الواقع الجديد من الضائقة الاقتصاديه واستمرار الحصار على قطاع غزه وقانون القوميه الصهيوني والواقع الجديد بالإقليم … حركة فتح اضاعت البوصلة ولا من منقذ بالافق.
مقال بصفحة 75
الكاتب والمحلل والباحث السياسي رائف حسين- المانيا
17/8/2018