خلال عقد ونيف انحصرت الجهود الفلسطينية في مشهد البحث عن التئام الكسر في الصدر الفلسطيني. جهود تدور في فراغ متتالي وفي غياب سياسة عليا. وعجز في معرفة الغاية النهائية والقصوى في المراد الوطني. جهود فقدت أهدافها الاستراتيجية وانحرفت إلى مسارات ضيقة ومظلمة لا نهاية لها ولا مخارج تقود للضوء في خواتيمها.
المشكلة اذا أردنا أن نراها من زاوية أخرى، ليست مشكلة آليات التصالح. ولا برامج الاتفاق. ولا أجندة التمكين. ولا رواتب الموظفين. ولا حتى أقواس الحصار المشدودة على عنق غزة. ولا تضخم الفقر والبطالة والجريمة والانتحار والعزلة. فهي جميعاً مسائل معيارية قابلة للقياس والحل والاختيار إذا أراد أصحاب الحل والعقد أن يخلصوا النية في فك طلاسمها. المشكلة تتجاوز هذه المشكلات الخدماتية الممكنة الحل في غزة والضفة. فالأزمة الحقيقية هي عند كل أطراف الشأن الفلسطيني الداخلي الذين يلهثون خلف المكاسب النسبية (الفئوية- الحزبية- الشخصية..الخ..). وقد أسقط الجميع من حساباتهم مسألة المكاسب المطلقة وفلسفتها.
الفصائليون هم من يتحكمون في مصير فلسطين وشعبها وليس السياسيون. والفصائليون(قصيرو النظر) هم الذين يقاتلون من أجل المكاسب النسبية. وليست المطلقة. على طريقة التشبيه المعروف للفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" في "صيد الأيل". الفصائليون هم من يتحكمون في اللحظة الفلسطينية الراهنة. لأن غياب الفاعل المركزي الفلسطيني وأقصد هنا (المؤسسة أو المؤسساتية) هي التي تركت الفرصة للفصائليين بإشاعة الفوضى، ودفعت بسيطرة حالة اللايقين بين كل الأطراف الفلسطينية شعباً وفصائل. ودفعت بتربص كل منهم بالآخر وعدم الثقة به.
الفصائليون هم الذين يديرون النظام الفلسطيني الباهت ، لذا، فقد انعكست هرمية النظام التي تقوم على العلاقات التراتبية في توظيف الاختلافات إلى فوضوية صارخة تعكس علاقات التساوي والتنسيق بين وحدات النظام. لذلك، تجد أن أي فصيل يمكنه أن يقاوم إذا شاء، وأن يعقد تسوية سياسية إذا شاء، وأن يفاوض العدو إذا شاء. وأن يعاقب المواطنين إن رأى في ذلك مصلحة ترفد في مجرى مكاسبه النسبية.
الفصائليون لا يعرفون ولا يعترفون بالعمل الاستراتيجي القائم على دعائم ومقولات راسخة في العلم والعمل. لأن الاستراتيجية تعني وجود سياسة وطنية أو دليل سياسي للدولة يجب أن تخضع لها جميع السياسات الفرعية. وتعني أن تخضع للتوجيه السياسي. وهي عملية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات وطرق ووسائل محددة بوضوح. وتخدم السياسة في نطاق التقلبات والتعقيدات والهواجس التي تحيط بالبيئة الاستراتيجية.
الفصائليون هم الذين يحددون أولويات التنمية، والتحرير، والبناء، والديمقراطية، وحقوق الانسان، في ذات الوقت الذي يفتقدون فيه كـ"فصيل" لثقافة التنمية والتحرير والبناء والديمقراطية وحقوق الانسان، ثم أنهم من فصائل –نسبياً- مختلفة. فإلى أي فصيل ينبغي أن يلتزم المواطنون؟
الفصائليون هم الذين يتفاوضون مع العدو فيفشلون. وهم الذين يقاومون فيفشلون. وهم الذين يتحاورون مع أنفسهم فيفشلون، باختصار،فلكل فصيل روايته وأسمائه وحبه وكرهه ولون يحمله في المناسبات الوطنية الجامعة.
الفصائليون يختلفون عن السياسيين. فالسياسيين غالباً لهم رؤية ورسالة ومؤهلات للتفكير الاستراتيجي والقدرة على التفكير النقدي، بمعنى النظر في تأثيرات كل ما جمعه السياسي لقضيته من حقائق ومعلومات ووجهات نظر وافتراضات واستنتاجات واحتمالات وعلاقات احتمالية. فهل أدرك الفصائليون–مثلاً- أن ما حققته اسرائيل من انجازات سياسية وعسكرية واقتصادية ودولية وفي ميدان الصراع مع الفلسطينيين خلال العقد الماضي لم تحققه اسرائيل منذ احتلالها لفلسطين قبل سبعين عاما. هل اتضح للفصائليين –مثلاً- أن ما يلقاه أهل فلسطين من تحديات كبرى لم يشهده تاريخ الفلسطينيين منذ قرن تقريباً.
الفصائليون هم الذين يتحدثون في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. وهم الذين يتحدثون في القاهرة. وفي خنادق المواجهة. وعلى شاشات التلفزة. وفي المؤتمرات. لذلك، ترى الحلوق جافة. والرسالة الفلسطينية ناقصة. والوجع الفلسطيني لم يصل للعالم جيداً. والانقسام ما زال قائماً، والتسوية السياسية مجهضة. واسرائيل تنتصر في كل المحافل. والفصائليون مستمرون في خطاب عبثي شبيه بآلهة العجوة عن أجدادنا العرب.
بقلم/ د.عبدربه العنزي