في ورشة عقدت قبل حوالى عقد ونصف العقد، حول تطبيق القانون، عندما تم إقرار قانون القضاء سألت أحد خبراء القانون في بلادنا وهل لدينا قانون؟ أجاب: "لو كان القانون كسيحاً فعلينا أن نضع له أرجل خشبية يقف عليها هذا هو دورنا". وبعد أن زرت بلاداً لا تعرف غير القانون ناظماً لحياتها وكيف تسير بهذا الانسجام وبلا فساد ولا تغوّل للأمن ولا تجاوزات، أدركت أن علينا أن نضع تلك الأقدام الخشبية داعمين للقانون وتطبيقه؛ لأنه الوحيد القادر على ضبط صراعات البشر، كما قال توماس هوبز، والوحيد القادر على صناعة مؤسسة حقيقية.
عندما أقيمت السلطة الوطنية، أخذ الأمر حوالى ست سنوات إلى أن أصبح قانون القضاء جاهزاً، وهو ما قام به أول وزير عدل للسلطة الوطنية الفلسطينية الأستاذ فريح أبو مدين، وقد وضع الرجل قانوناً هو الأكثر عصرياً في المنطقة، متجاوزاً حالة الإرث العربي التي نالت من سمعة رجال القضاء في الوطن العربي، حيث صادر معظم صلاحيات وزارة العدل لصالح السلطة القضائية واستقلالها، مازحه حينها الشهيد الكبير قائلاً: "وأنت حتعمل إيه يا أبو مصطفى؟"، على اعتبار أن القانون لا يترك شيئاً لوزير العدل الذي أعده وقيّد صلاحيات السلطة التنفيذية سواء الوزير أو الحكومة وحتى الرئيس نفسه.
البعض حينها قام بتحريض الرئيس عرفات بأن هذا القانون لا يصلح لدينا ويصادر صلاحيات الحكومة والرئاسة، وأن وزير العدل رجل طوباوي حالم، لكن أبو عمار وضع توقيعه بعد مصادقة المجلس التشريعي حينها، واعتبر ذلك يوم من أيام التاريخ الفلسطيني، والذي أعطى للقضاء تلك الصلاحيات من احترام وهيبة وجعله مستقلاً عن السلطات الأخرى ليقوم بدورة كما الدول الحضارية، وإن حاول وزراء العدل اللاحقين تقديم تعديلات للمجلس التشريعي لكنه رفض؛ لأن هذا واحد من أهم الإنجازات التي تحققت ولا يمكن التراجع عنها.
لكن الأسبوع الماضي، تفاجأنا بأربعة عشر قاضياً بالمحكمة العليا الفلسطينية يودعون استقالة جماعية لدى رئيس جمعية نادي القضاة، المستشار الأستاذ أسامة الكيلاني، على أن تقدم للمجلس الأعلى للقضاء إذا ما تم دخول مشروع تعديل قانون السلطة القضائية حيز التنفيذ، وهو ما يضيء إشارة حمراء خوفاً من استقواء السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، خصوصاً في وقت تغيب فيه واحدة من أبرز المؤسسات الفلسطينية المنوط بها التشريع والمصادقة على القوانين والقيام بدور الرقابة على السلطات.
ليس المهم هنا النقاش القانوني الذي أدلى به خبراء القانون حول صلاحية الجهاز التنفيذي بتشكيل لجنة خارجية للتدخل في شؤون القضاء، سواء بهدف تعديله أو وضع توصيات أو قدرة أي جهة على تنفيذ القانون؛ لأن النصوص تتحدث عن المجلس التشريعي صاحب صلاحية تغيير قانون السلطة القضائية باعتباره مؤسسة عليا بل إن القضاء غالباً في حالة خصومة وتربص إلى حد ما بالسلطة التنفيذية التي وجد ليراقب ويحاكم عملها إن أخلت بالقوانين، ومن هنا فإن إجراء التغييرات على يد السلطة التنفيذية لا يجوز أو يعني استقواء سلطة على سلطة وفي هذا خطأ كبير.
لكن التعديلات المقترحة لا تعني إلا سحب صلاحيات من السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية، وفي هذا ما يخل بالتوازن القائم بين السلطات ويجعل السلطة التنفيذية وفي غياب المجلس التشريعي هي السلطة الوحيدة القائمة، وفي هذا خطر كبير لأن غياب أو مصادرة دور مؤسستي التشريع والقضاء لصالح سلطة تعمل وتخطئ كما كل البشر يعني أن تعمل تلك السلطة بلا رقيب أو حسيب، والخشية كبيرة مستقبلاً إذا ما أعيد بناء النظام السياسي وأعيد إحياء المجلس التشريعي أن نجد أمامنا سلطة قضائية بأظافر مقلمة عاجزة عن المحاسبة ومذعورة من السلطة التنفيذية.
كنت قد كتبت، الشهر الماضي، مقالاً عما فاجأني في الولايات المتحدة الأميركية أثناء الانتخابات.. اكتشافي أن قاضي الولاية يتم انتخابه من قبل الناخبين الأميركيين كما الرئيس تماماً، ويتنافس على المنصب أكثر من قاضي، وتلك هي رأس القوة حيث يمثل القاضي إرادة الشعب ويعمل بتكليف مباشر من الجمهور الذي انتخبه ولا أحد يملك تعيينه ولا أحد يملك صلاحية إقالته سوى الشعب، فهو بكامل القوة ليلاحق ويحاسب ويفتح ملفات لذا تخشاه السلطة التنفيذية وتعمل بلا أخطاء وبلا فساد، فما فائدة القاضي إذا كان لأيٍّ كان فضل في تعيينه ليصبح ولي نعمته؟ وكيف إذا كان لأي كان صلاحية فصله؟ لذا طالبت بنقل التجربة الأميركية لتكون سلطة القضاء منتخبة، ولم أعرف أنه أثناء نشر المقال كانت هناك لجنة كلفتها الحكومة كانت توصي بمزيد من إضعاف سلطة القضاء، فالقضاء لدينا هو الأكثر تطوراً في المنطقة العربية ولا ينبغي المساس به.
إن وظيفة السلطة التنفيذية هي تنفيذ القانون والالتزام بالقضاء والحفاظ عليه كسلطة مستقلة وعدم التدخل في المنظومة القضائية، بل والحفاظ عليها، خصوصاً إذا كان لديها قانوناً عصرياً كما القانون الذي لدينا يشكل مفخرة قياساً بالمنطقة العربية، وإذا كان كل شيء لدينا يتراجع فهل ينبغي أن نجرَّ إحدى أبرز المؤسسات إلى هذا المستوى الذي نحن فيه؟ فيكفي ما لدينا من أزمات تراكمت جميعها، من انقسام وتفتت وتكلس المؤسسة بلا انتخابات والدخول في مرحلة التيه، ووسط كل هذا هناك من يسعى لإضعاف القضاء، نرجوكم دعوا السلطة القضائية حارساً لنا فهي ما تبقى..!
بقلم/ أكرم عطا الله