انسداد الخيارات ومحاولات البحث عن مسارات..!!

بقلم: أكرم عطا الله

لسنا أول الشعوب التي يشاء قدرها أن تخضع لاحتلال، فباستثناء بريطانيا فإن كل شعوب الكرة الأرضية تحتفظ بتاريخ أسود حين داهمها الغزاة جاثمين لعقود أو لقرون على رقابها. لكن التاريخ قال كلمته أو حكمته التي ظل صداها يتردد مع انسحاب آخر الجنود المهزومين في التاريخ سيراً على الأقدام أو بطائرة من على سطح سفارة.

ولسنا أول الشعوب التي تتعثر مسيرتها، فليس كل حقب التاريخ تسير بخط ثابت لأن انثناءاته المتعرجة كانت واحدة من السمات التي رسمت بالدم على خرائط وصور الذكريات والذاكرة الطويلة لاستعمارات كبرى قطعت البحار نهماً وطمعاً قبل أن تنكفئ تاركة خلفها دم أبنائها وكوابيس الذكريات ووصمة عار على جبينها وقبل أن تتحول تلك الاستعمارات إلى أكثر الدول تحضراً.

لكن للتاريخ عدالته بشكل مدهش، فحين أطل القرن العشرون كان عنوان الاستعمارات الكبرى أوروبا التي كانت تحتل الشرق الأوسط حتى الهند بعد الحرب العالمية الأولى واليابان بطغمتها العسكرية، وجاء هتلر ليحطم أوروبا، ثم تأتي الولايات المتحدة لتحطم هتلر والحكم الياباني الذي كان يسيطر على أقصى الشرق، وليس من الغريب أن أوروبا واليابان أكثر الدول ديمقراطية بعد أن ذاقت ويلات الحروب والاحتلال، لكن عدالة التاريخ لسوء حظنا توقفت لأن الولايات المتحدة تقف في الصف المقابل لنا، وتلك معضلتنا الكبرى ولا حليف.

استمعت لخطاب الرئيس في الأمم المتحدة والذي كان يعكس أزمة الوضع الراهن في كل شيء. بدا كأن الولايات المتحدة وإسرائيل تغلقان كل الطرق التي كانت مفروشة بالأمل يوماً ما، وفي اليوم الثاني لخطاب الرئيس كانت إسرائيل تصعد على الحدود الشرقية لقطاع غزة باستخدام أسلحتها ضد المتظاهرين وقد سجل العدد الأكبر منذ منتصف أيار للشهداء والجرحى سبعة شهداء وأكثر من خمسمائة جريح دون أن تقدم شيئاً وكأنها تغلق الطريق أيضاً بالقوة أمام حركة «حماس».

خطاب الرئيس ومسيرات العودة اختلف الفلسطينيون في تقييمهما بسبب الانقسام الذي أصاب ظهر الشعب الفلسطيني. فمؤيدو الرئيس اعتبروه وثيقة تاريخية، فيما المعارضون اعتبروه أقل من أن يلبي الحاجة. وكذلك مسيرات العودة التي اعتبر مؤيدوها أنها نموذج مثالي في الأداء الحالي، فيما يرى المعارضون في ارتفاع الخسائر دليلاً على الفشل. فلم يعد لدينا معيار للقياس لأن كل مقاييسنا أصبحت مرتبطة بالانتماء بعيداً عن التفكير الهادئ وكل من مؤيدي الطرفين يعطي للفعل القائم ما يكفي من الإشادة بغض النظر عن الواقع ومدى انطباقه.

بعيداً عن العاطفة والبلاغة التي ميزت خطابنا في السنوات الأخيرة، فكلما تعاظمت تلك البلاغة أخفقنا في تحقيق إنجاز. لكن في لحظة ما علينا استدعاء العقل لقراءة الواقع والحقيقة التي تقف أمامنا جميعاً بأن المشاريع انغلقت أمامنا، وأن الإسرائيلي تمكّن من محاصرتنا من كل الاتجاهات مستدعياً ما يملك من قوة وقوة احتياط، تتمثل في رئيس أميركي يلقي بثقله لحماية إسرائيل حتى وإن بشكل خارج عن الأعراف والقيم السياسية والتقاليد التي سارت عليها العلاقات الدولية، حيث إن الغريب والمستهجن أن يتم تقديم الدعم للغازي والمعتدي بهذا الشكل السافر.

وسط كل هذا المناخ والطرق المحشوة بالأزمات، والنتيجة، بعد كل هذا التاريخ الطويل من الصراع الدامي على هذه الأرض، تبدو شديدة التواضع أمام ما قدّم من تضحيات. وتلك معادلة كان يجب أن تستوقفنا مبكراً بدلاً من أن نجيب عليها بالشعار محاولين إخفاء معالم حروقها ونتائجها لنستمر هكذا نقفز في الخواء بلا نتيجة، فالجمل والشعارات لا تغطي طويلاً لأن جرح الواقع أكبر كثيراً من أن نداويه بالكلام.

لم نقف ولو مرة واحدة. آن الأوان لمراجعة تجربتنا؛ لأن الأمر لم يعد يحتمل مراجعة نقدية، أن نتوقف قليلاً أمام ذاتنا التي أصيبت بكل هذا الوجع أمام ما فعل بنا الإسرائيلي وأكثر أمام ما فعلناه بأنفسنا، هذا الشهر نحيي ذكرى ربع قرن على اتفاق أوسلو ولم نعقد جلسة حوار أو ندوة أو مجموعة تفكر بصحة أو تعثر المسار، رغم إقرارنا جميعاً بأننا لم نحقق ما أردنا، هكذا تفعل جميع الشعوب العاقلة التي تقف أمام تاريخها وتراجع تجاربها.. تعرف أين أخطأت وأين أصابت، أين تقدمت وأين تعثرت، وتستفيد من التجربة وتستخلص العبر.. تقيم ثم تستأنف المسير من جديد، ونحن لم نفعل ونستمر بلا شيء والواقع يغرق أكثر.

خطاب الرئيس في الأمم المتحدة كان يحمل قدراً من الغضب والشعور بالخذلان من قبل المجتمع الدولي والولايات المتحدة وتجربة كانت عابثة، والمسيرات التي تدور على الحدود أيضاً والتي تقودها حركة «حماس» تحمل قدراً من الغضب والشعور بالخديعة من توقف مباحثات التهدئة وعلى الجانبين في غزة والضفة.

يمكن القول: إن حقيقة المشهد تشي بقدر من الخذلان وصدمة الواقع.. هكذا يبدو بلا تجميل أو إضافات أو شعارات تحاول استيلاد النجاح من كومة الفشل التي تكللنا جميعاً، وليس بالضرورة أن نكون نحن المتسببين بها، ولكن الضرورة تقتضي كيف سرنا أو كيف تم استدراجنا إلى هذه اللحظة التي يبدو فيها كل شيء مغلقاً أو دورنا في كل ما حصل لنا.

هناك عاصفة أميركية طاغية ولغة تتناثر منها قوات المارينز وحاملات الطائرات وأموال ونفوذ وسيطرة كونية حتى على العرب ودولهم. إنه طغيان القوة التي حشرتنا في الزاوية أو بالأدق كشفت عمق مأزقنا الذي يتراكم منذ عقود، حين فشلت كل الأدوات الأميركية أن تكون وسيطاً، وحين فشلنا أن نرغم إسرائيل سواء بالمفاوضات أو بالعمل المسلح على تقديم تنازلات، بل تقدمت بمشروعها أكثر.

كل هذا وأسئلة أكثر صعوبة وسط التراجع والتشتت وإخفاق حل الدولتين وتزايد الفراغ السياسي، وغياب الكيان الجامع، وسؤال استمرار السلطة تحت الاحتلال واستمرار الانقسام والتهديد بانفصال غزة، وتحول الفلسطينيين إلى جماعات متناثرة جعلت مجموعات متعددة من الفلسطينيين تحاول البحث عن إجابات للواقع المعقد، ومنها ملتقى فلسطين الذي عقد ورشة الأسبوع الماضي لم أتمكن من الالتحاق بها في إسطنبول، في محاولة للتوقف أمام التجربة ومآلاتها. وقد ضم الملتقى، الذي كان قد تبلور في آذار الماضي، عدداً من المثقفين الوطنيين من كل أماكن تجمعات الشعب الفلسطيني وللتعبير عن وحدة الشعب والهم الطاغي وضم ممن شاركوا عدداً من مثقفي فلسطينيي الـ 48، محاولين تقديم إجابات من خلال بيان صدر عنهم بعد نقاش عميق استمر لمدة ثلاثة أيام، وكخلاصة حوارات بدأت منذ نصف عام، عندما تبدى أن محاولات ترميم الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي لم تتحقق كما يجب، وحاول أن يقدم حلولاً لكل الأسئلة الصعبة والمطروحة في عقول المثقفين ولكومة الالتباسات المعقدة التي تحولت إلى متاهة فلسطينية بدا للحظة استحالة الخروج منها؛ لأن الأداء الفلسطيني الراهن لا يفكر بالأزمة وواقعها ولا يستشعر خطورة الراهن.

اللحظة أكثر حرجاً من أن نتعامل معها بغربال محاولين إخفاء الواقع. إنها فرصة للتوقف والنظر لكل ما يحدث بجدية. هناك مسارات ارتطمت بالحائط وتركتنا ننزف دماً وأرضاً.. في غزة هناك انقسام فلسطيني أصاب المشروع الوطني إصابة بالغة، وهناك يمين إسرائيلي مسيطر يعتبر الضفة أرضاً مقدسة، وهناك واقع فلسطيني غاية في الهشاشة وواقع عربي غاية في الضعف، وهناك مناخ دولي تصنعه إدارة ترامب ضد إرادتنا. كل هذا ينبغي قراءته بهدوء، بعيداً عن العواطف، لننظر بعدها إلى اليمين وإلى اليسار لنقرر الحركة من جديد، لا أن نظل أسرى واقع آخذ في الغرق أمام أعيننا جميعاً ونحن نجد الحل بالتجاهل.. هذا لا يجوز...!

بقلم/ أكرم عطا الله