ليس كل صاروخٍ ينطلق من قطاع غزة تجاه العدو الإسرائيلي هو بقصد المقاومة، وضمن استراتيجية المقاومة والتحرير، ويصب في خدمة الشعب ويعود بالنفع على القضية، وإن أصاب هدفاً أو ألحق ضرراً، وإن تألم منه العدو وتوجع، وشكا منه ورد عليه، وارتفع صوته بالصراخ غاضباً وبالثأر والانتقام متوعداً، فسقوط الصواريخ على مناطق العدو أياً كانت نتائجها وآثارها، لا يعني بالضرورة طهرها، ولا يمنح مطلقيها شهادةً في الوطنية ووساماً في المقاومة، ولا يطلق أيديهم في غيرها منفردين دون دراسةٍ أو تنسيق.
فلكلِ صاروخٍ ينطلق نحو العدو ويصيب هدفه أو يضل طريقه، في غير الحرب العامة والمعركة المفتوحة، هويةٌ وذاتية، تحدد فيها الجهة المسؤولة عنه والمنطقة التي أطلق منها، وتوثق إطلاقه وتبين مكانه وزمانه، وتعلن المسؤولية عنه وتكشف عن الغاية منه، أهو ردٌ بقصد الثأر والانتقام، أم هو مبادرةٌ واستئنافٌ للمقاومة ضمن ما يعرف بالتصعيد المدروس والتسخين المقصود، أم هو لسببٍ آخرٍ غير معلنٍ، وغايةٍ خفيةٍ تُعرفُ ولا تُكشفُ، وعليه يجب أن يكون لكل صاروخٍ نسبٌ نعرف منه أصله وأهله، لنبرئه من التهمة وننفي عنه الشبهة، إذ ليكون مقاوماً يجب أن يكون شريف المصدر ومشروع الغاية ونبيل الهدف.
ليست المقاومة بكل أطرافها وتوجهاتها مسؤولةٌ عن كل صاروخٍ ينطلق من قطاع غزة، أو تتحملُ فصائلها كاملَ المسؤولية عنه، فهي ليست الجهة الوحيدة التي تطلق الصواريخ على مناطق العدو ومستوطناته، فقد تشاركها في الإطلاق جهاتٌ عديدةٌ وأطرافٌ مختلفة، ولكن أسباب القصف وغاياته تختلف من المقاومة عن أي جهةٍ أخرى، حيث تفتخرُ المقاومة بالرد أو القصف المباشر أثناء الحرب وخلال العدوان، وتعلن مسؤوليتها الرسمية عنه عبر بيانٍ رسمي أو من خلال ناطقها الإعلامي، بينما يتستر آخرون على قصفهم ويخفون دورهم، ولا يعلنون المسؤولية عن فعلهم، لا زيادةً في تضليل العدو وإرباكه، ولا محاولةً منهم لتشويه تفكيره وتشتيت جهوده، وإنما لغاياتٍ أخرى قد تخجل منها أو تخاف من الكشف عنها.
يتساءل الفلسطينيون والمراقبون لشأنهم والمهتمون بأوضاعهم، لماذا تنفرد جهاتٌ فلسطينيةٌ معلومة، أو تقوم أخرى مجهولة الاسم والهوية، ولا يعلم بها أحد، في ظل فترات الهدوء والتهدئة، أو أثناء الحوارات وخلال عمل الوسطاء، أو في ظل فترات التوافق والتفاهم، بعمليات قصفٍ عشوائية لمناطق العدو، تصيب بعض صواريخها مناطق مأهولة أو تصيب أهدافاً مهمة، إلا أغلبها تسقط في مناطق حرشية أو صحراوية، أو تسقط في البحر أو في مناطق غير مأهولة، لكن عمليات القصف هذه تربك غرفة العمليات المشتركة لقوى المقاومة، وتخلط أوراقهم وتبدد جهودهم، كون الفاعلين أياً كانت نيتهم وغايتهم قد تصرفوا من تلقاء أنفسهم ودون الرجوع إلى المجالس العسكرية المشتركة، التي تضم جميع القوى وتلتزم بخطوطها العامة.
لا شك أن هناك جهاتٌ مشبوهةٌ وأخرى غير بريئة، ممن لهم حساباتٌ خاصة أو اجتهاداتٌ أخرى، هم الذين يقومون بمثل هذه العمليات الخارجة عن السياق الزماني والنضالي ويقفون وراءها، حيث يظهرون فجأة ويغيبون بسرعة، ولكنهم بقصفهم المقصود يفشلون المساعي، ويبطلون الجهود، ويحبطون الوسطاء، ويربكون الساحة، ويشغلون المواطنين بما ينتظرهم، خاصةً في الأوقات التي يتطلع فيها المواطنون للتهدئة ويسعون للحصول على بعض الراحة، ليلتقطوا أنفاسهم ويستعيدوا بعض قوتهم.
لستُ حريصاً على العدو أو خائفاً على مصالحه، ولا أدعو إلى تطمينه وتأمينه، وهو الذي اعتاد أن يرد على كل قصفٍ، ولا يفوت أي فرصةٍ للرد على أي عمليةٍ من قطاع غزة، وإنني إذ أرى وجوب قصفه وصده بالقوة، ووضع حدٍ لاعتداءاته وتجاوزاته بالسلاح الذي نملك، فإنني أدعو إلى توافق القوى الفلسطينية وأجنحتها العسكرية، ووجوب التنسيق المشترك والتكامل التام فيما بينها، وعدم تفرد أي جهةٍ بالقرار ولو كانت الأقوى، وعدم هيمنتها على الجميع ولو كانت هي الأقدر.
فعدونا شرسٌ خبيثٌ، وماكرٌ كذَّاب، يتربص بنا ويتآمر علينا، فلا نعطيه الفرصة لإيذائنا، ولا المبرر لضربنا، وإن كان لا يحتاج إلى مبررٍ أو حجة، فطبيعته عدوانية، ونفسه شريرة، وسجله معنا أسودٌ قاتمٌ، وشعبنا الذي يصبر على الأذى ويحتمل المصاب، ولا يضج ولا يصخب، ولا يسب ولا يشجب، يعرفه وقد جربه، ويدرك طبيعته وقد خبره، وسبق له أن تأذى منه وتضرر، وتوجع من عدوانه وتألم.
لهذا فإننا نريد من المقاومة أن تخلق توازناً بينها وبين العدو، يفهمه ويدركه ويحترمه، ويخاف من خرقه والإخلال به، ويخشى المس به والمغامرة في ضبطه، ونريد أن تفرض عليه معادلةً ناريةً تقوم على الرد بالمثل، قصفاً بقصفٍ، وقنصاً بقنصٍ، وترويعاً بترويعٍ، وتخريباً بتخريبٍ، وحرقاً بحرقٍ، وحرباً بحربٍ، وأمناً بأمنٍ، وسلماً بسلمٍ، وهدوءً بهدوءٍ.
وقد نجحت المقاومة إلى حدٍ كبيرٍ في ترسيخ قواعد هذه المعادلة، وإن كانت قد دفعت الكثير حتى تمكنت من فرضها وترسيخها، كما نجحت في إفهام العدو بأنها لا تسكت على العدوان، ولا تمتنع عن الرد والثأر والانتقام، ولا تتردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، ولا تقبل أن تكبل نفسها وتغل يديها بحساباتٍ سياسيةٍ، أو بهواجس أمنية وعسكرية، بل تريد أن تكبل العدو وتقيد يديه، وتشل حركته وتحد من قدرته وحريته، ولكن القصف المنفرد لا يخدمها، والعمليات غير المنسقة تضر بها ولا تنفعها.
أيها الفلسطينيون المقاومون، أيها المقاتلون الأطهار، أيها الرماة الأحرار، يا حملة سلاح الشرف والبطولة، أيها المضحون بأرواحكم في سبيل وطنكم، حافظوا على شرف السلاح ونبل المقاومة، واحتفظوا بكل طلقةٍ ليوم المعركة وساعة المواجهة، ولتكن لكم غرفة عملياتٍ مشتركةٍ، وقيادة منسقة منظمة، تحمي المقاومة وتصون سلاحها وتحفظ حياة رجالها، وتكون في خدمة الشعب وحمايته، وإياكم وقصف الجكر أو رمي النكاية، وإلا فإن من يقوم بمثله مشبوهٌ في دوره، ومشكوكٌ في فعله، وغير وطنيٍ في شخصه، غايته الفتنة وسعيه التخريب والفساد، ولتبقى صواريخكم نحو العدو موجعة، تفاجئونه بها عند المعركة، وتؤلمونه بها عند المواجهة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 26/10/2018
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]