يمكن القول بكثير من الارتياح بأن محطة انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني قد مرت على خير ما يرام على الواقع الفلسطيني، فقد ظهرت قرارات المجلس بشكل هادئ وعقلاني ومتزن جداً، كان من شأنها أن تبقي على باب إنهاء الانقسام الداخلي مفتوحاً، وحتى أنها لم تضع السكين على رقبة "حماس" ولم تدفع الداخل الشعبي للاحتقان، كما توقع البعض أو ظن، فهي لم تفكر بأية "عقوبة" تمس الخدمات العامة، بالمقابل فقد أظهرت عيناً حمراء وأظهرت الجدية في وضع الحد للمرحلة الانتقالية بكل إشكالاتها الأمنية والاقتصادية والسياسية.
لقد أظهرت جلسة "المركزي" باختصار نضجاً سياسياً، كان مهماً ومطلوباً في هذه اللحظة السياسية الصعبة، وعلى عادة العقلاء من بني السياسة، لم تهتم القيادة الفلسطينية بالصخب السياسي، وهي تخوض معركة متعددة الجبهات بصبر وأناة وثقة بالنصر، ورغم انه لم يصدر نص صريح عن المجلس يقول مثلاً بحل المجلس التشريعي أو بإلغاء الاعتراف بإسرائيل واشتراط العودة إليه بالاعتراف المتبادل، أو بإعلان صريح بإلغاء "أوسلو" بكل بروتوكولاتها الأمنية والاقتصادية، إلا أنها حين وضعت التفويض بيد لجنة العشرين، قد منحت القرار للجنة لتقوم باستخدامه في أية لحظة، أو في اللحظة المناسبة، إن اقتضى الأمر.
أي أن المجلس المركزي قد أبقى لفرصة أخيرة على شعرة معاوية، وفي الحقيقة فانه بقدر ما منعت المقاطعة الفصائلية المجلس من "التطرف" خاصة في الملف الداخلي، فإنها بذلك قد طوقت "حماس" بالمقابل، لتمنعها لاحقاً من التوغل كثيراً في ملف التهدئة وفق مسار تجاوز السلطة المركزية، وهذا يمنح أيضاً الراعي المصري لملف المصالحة الفرصة ويسهل عليه من اجل مواصلة جهده المبارك، حيث تابع الوفد المصري في اليوم التالي متابعته، وحيث لم تجد "حماس" بداً من الإعلان فوراً عن استعدادها لتنفيذ اتفاقيتي المصالحة 2011 و 2017 .
لم ينقطع الحبل إذاً حتى في العلاقة مع الحل السياسي، وإذا كانت إسرائيل حققت نجاحاً في ملف التطبيع مع بعض الدول الخليجية، إلا أنها ستواجه لحظة تالية تكون فيها قوة الدفع الأميركية قد تراجعت، كذلك لحظة أن تضطر دول الخليج نفسها أن تدفع ثمن تطبيعها المجاني، لاحتواء الحنق الشعبي العربي وموازنة الموقف بتقديم الدعم السياسي للحقوق الفلسطينية.
المحطة التالية بتقديرنا هي انتظار نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي بعد أسبوع من الآن، حيث سيكون البيت الأبيض في وضع داخلي أصعب، يكبل يدي ترامب الى حد ما، لذا فإن محطة باريس بعد ذلك بأيام وتحديداً في الحادي عشر من تشرين الثاني الحالي، ستكون مهمة جداً، من حيث أنها ستضع على الطاولة بديل صفقة ترامب، وتفتح الطريق مجدداً للحل السياسي.
فعلى هامش احتفالات باريس بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث تنوي باريس استثمار المناسبة، للبحث في ما وصفته القناة العاشرة الإسرائيلية بصفقة قرن فرنسية.
بالطبع باريس هي محل ثقة الجانب الفلسطيني، كذلك لا يمكن لإسرائيل أن ترفض المبادرة الفرنسية، وهي لا تنظر لباريس كما هو حال موسكو أو بكين، وإذا ما احتوت المبادرة الفرنسية جوهر الصفقة الأميركية مع التعديل الجوهري الذي يمكن للجانب الفلسطيني القبول به، كذلك أخذاً بعين الاعتبار انسداد الطريق أمام صفقة ترامب، فانه يمكن القول إن حلاً يمكن أن يظهر في الأفق، أو على اقل تقدير مفاوضات سياسية، لكن ذلك منوط بنجاح باريس في جمع الأطراف المذكورة، حيث يمكن في ظل الموقف الفلسطيني برفض الحوار الثنائي مع واشنطن وتل أبيب، لاجتماع خماسي أن يحل المشكلة، ونقصد أن باريس إن نجحت في عقد اجتماع خماسي يحضره عباس وبوتين، ترامب ونتنياهو، إضافة للرئيس الفرنسي الذي سيكون مضيفاً وراعياً للاجتماع، مانويل ماكرون، فانه يمكن القول إن عربة التفاوض قد انطلقت حينها.
في حالة "التوازن" الدقيق القائمة، وبعد الهجوم الأميركي/الإسرائيلي متعدد الأشكال على القيادة والشعب والحقوق الفلسطينية، وفي ظل استمرار الانقسام الداخلي، فان الصمود وعدم الانكسار يعتبر نصراً وثباتاً، حيث إن عدم ظهور أي بوادر توتر سياسي، كما اشرنا في اجتماع المجلس المركزي، يعني بان الأمور لم تفلت من بين يدي القيادة الفلسطينية، وان زهو نتنياهو بعد زيارته لمسقط، لم يطير العقل الفلسطيني من مكانه، وما هو إلا صبر ساعة، وتتراجع قوة الدفع الأميركية التي ضخت "الدماء" في عروق التطرف الإسرائيلي، كذلك فانه من غير المستبعد أن يشمل الأمر الداخل الإسرائيلي، من حيث أن تشهد الأيام القادمة، تراجعا في اندفاعة التطرف السياسي والميداني، خاصة وان الشارع الفلسطيني بدوره ما زال يقاوم، وبشكل متعقل، وثابت أيضا، حيث لم يفقد احد عقله، ليذهب على طريق ممارسة المقاومة بشكل ثأري أو كرد فعل انفعالي.
فما زال رغم القتل الإسرائيلي المباشر والمجنون الحراك الشعبي في غزة سلمياً، كذلك فان هناك تململاً واضحاً ومتصاعداً للتحرك الشعبي في الضفة الغربية، وحتى نقل السفارة الأميركية للقدس لم يحدث فعل "الدومينو" من حيث الدفع بدول أخرى للسير على الطريق الأميركي، بل تم تقليل الخسائر من خلال دبلوماسية فلسطينية هادئة.
في الحقيقة فإن الشعب الفلسطيني ينتقل الآن من شكل كفاحي لآخر، فهو بصعوبة قد حول مسار البوصلة من طريق الكفاح المسلح، للكفاح الشعبي السلمي، حتى أن "حماس" نفسها التي حاولت خلال عقدين مضيا أن تبقي على إستراتيجية الكفاح المسلح والعنيف، ها هي تقر منذ نصف عام على الأقل بالتحول الاستراتيجي، الذي لن ينتهي إلا بالنصر، ففلسطين تقاتل اليوم على طريقة جنوب أفريقيا/مانديلا، هند المهاتما غاندي، وأبو مازن لا يبدو تشي جيفارا أو كاسترو، لكنه يبدو مثل لوثر كينج والحبيب بورقيبة، يسعى من أجل تحرير بلاده ومن أجل نيل حقوق شعبه.
بقلم/ رجب أبو سرية