يوجد الآن من المؤشرات ما يكفي للدلالة على أن الدولة الأردنية قد إبتدأت تستعيد عافيتها وتضع الأمور في نصابها السليم . وأهم ما جرى مؤخراً وأعطى المؤشرات على هذ المسار الجديد ما يلي :-
أولاً :- تكريس مبدأ المسؤلية الأدبية في الوظيفة العامة والتي تضع المسؤول الأول في أي منصب عام في موقع المسؤولية إما المباشرة أو الأدبية على أية إهمال أو تقصير أو أخطاء جسيمة تُرتكب في الوزارة أو المؤسسة التي يديرها .
تكمن أهمية هذا المبدأ في إفهام كافة المسؤولين أن المنصب ليس مدخلاً للتشريف أو المباهاة أو التفاخر بقدر ما هو إشغال لموقع عام تترتب عليه مسؤولية العمل والانجاز ضمن حدود القانون والمصلحة العامة وما يترتب عليها من مراقبة للإنجاز ومحاسبة على الاخطاء والتجاوزات وما يحمله كل ذلك في النهاية من ثواب أوعقاب .
إن الأداء العام لكل مسؤول وما يترتب عليه هي مسؤولية عامة يحملها المنصب وشاغره سواء أكان رئيس وزراء أو وزير أو مدير عام . إن هذا المبدأ معمول به في الدول الديموقراطية والمتحضرة يهدف إلى الإقرار بالخطأ عند حدوثه ، دون أن يعني بالضرورة أن ذلك المسؤول قد إرتكبه بقدر ما يعني إقرار ذلك المسؤول بأن ما حدث هو خطأ أو مُخَالِفاً للقانون . ومثال على ذلك حادث القطار في اليابان والذي أدى إلى وفيات عديدة حيث استقال وزير المواصلات فوراً مع أنه لم يكن هو سائق القطار أو مسؤولاً عن الحادث ، وكانت استقالته تلك إعترافاً واقراراً منه بجسامة ما حدث بالإضافة إلى كونها إعتذاراً للشعب عن ما حدث ، والأمثلة المماثلة كثيرة .
إن إستقالة وزيرين من الحكومة الأردنية ، حتى وإن جاءت متأخرة ، إلا أنها تصب في ذلك السياق ، وتضع مؤشراً جديداً على أهمية مفهوم المسؤولية الأدبية وتعطي اعتباراً خاصاً لحق الشعب في الحصول على الاعتذار عن التقصير ، والإقرار بالمسؤولية العامة والأدبية للمسؤولين ، والتوقف عن لوم الآخرين على تقصير المسؤولين سواء المباشر أو غير المباشر . وهذا المسار يؤشر على نهج جديد سوف يساهم في تخفيف الاحتقان الشعبي العام ويعزز الأمل بأن هذا النهج الجديد سوف يستجيب للمطالب العامة في تكريس سيادة الدولة على نفسها وعلى مواطنيها بمعزل عن مراكز القوى المختلفة .
ثانياً :- هنالك مؤشرات هامة وبدايات واضحة على توجه رسمي جديد نحو المحاسبة وتَعَقُّبْ ومعاقبة الفساد . ومع أن هذه المحاولات تُرَكِّز الآن على الفساد المتوسط والصغير إلا أنها تبقى بداية مهمة كونها تحمل تقديراً واضحاً بأن الوطن لم يعد يحتمل الفساد وآثاره السلبية على الدولة والمجتمع والمواطن . والتركيز الرسمي الذي نلاحظه مؤخراً على التسَيُّب والمخالفات والتجاوزات المالية ، وهي أشكال من الفساد حتى ولو كانت بعشرات ومئات الألوف من الدنانير . والاعلان الرسمي عن التوجه نحو محاسبة كل المخالفات والتجاوزات التي ورد ذكرها في تقرير ديوان المحاسبة ، بالاضافة إلى سرعة الاجراآت الحكومية ضد التجاوزات المالية والفساد في مؤسسات أخرى مثل مستشفى البشير ، تشكل في مجموعها إشارات إيجابية تستحق الثناء والتشجيع والدعم .
إن هذا المسار قد يؤدي إلى الابتعاد التدريجي عن إختيار المسؤولين غير المؤهلين أو الفاسدين أو الذين لديهم الاستعداد للولوج في عمليات الفساد أو تسهيل الفساد أو التغاضي عنه والقبول به . إن الاستمرار في هذا النهج سوف يساهم بالنتيجة في تنقية مؤسسات الدولة من هؤلاء وكذلك في إعادة القدسية والاحترام للمال العام . ونجاح هذا المسار وتشجيعه سوف يساهم بالضرورة وبالنتيجة في القضاء على التَسَيـُّبْ وعلى الفساد الكبير وكافة المنتفعين منه حتى ولو كانوا من طبقة المتنفذين والمسؤولين الذين أسهموا مساهمات ملحوظة في الخراب العام ، والذين يملكون من النفوذ ما يُمَكِّنَهمْ من حماية فسادهم على حساب المصلحة العامة أو إفتقارهم إلى الكفاءة التي يتطلبها المَنْصِبْ .
ثالثاً :- الخروج من الدائرة الضيقة المغلقة للمسؤولين والانفتاح على المجتمع المدني الأردني بهدف فسح المجال أمام مؤسساته وأمام المواطنين عموماً لِتَحَمُّل جزءاً من مسؤولية إدارة الدولة ، والتدقيق في أداء المسؤولين ومحاسبتهم في إطار المسؤولية المترتبة على ذلك الأداء أو عدمه ، وكسر إحتكار السلطة ومراكز الحكم وحصرها بأبناء بعض المتنفذين من أفراد وعائلات .
إن مفهوم تداول السلطة يجب أن لا يستند إلى العلاقات الإجتماعية أو صلة القربى أو الولاء الأعمى ، بل إلى حياه سياسية نشطة تستند إلى برامج سياسية وأحزاب وتجمعات وطنية ومؤسسات مجتمع مدني والتي يجب أن تتنافس جميعها على خدمة الوطن وليس استغلاله .
رابعاً :- يشهد الأردن الآن بدايات خجولة لمعالجة موضوع غياب الشفافية الذي فتح الباب على مصراعيه أمام موجات من الشائعات التي أصابت مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأردن . وتُعْتَبَرْ الحقيقة وهَيْبَةِ الحُكْم أولى ضحايا غياب الشفافية والمعلومة الصحيحة . والشائعات التي رافقت كارثة البحر الميت مؤخراً وما جرى من أحاديث عن سد رزقاء – ماعين هو آخر الأمثلة على خطورة الشائعات . ولعل هول الكارثة ورد الفعل الشعبي الساخط وتدخل الملك شخصياً في تأليف لجنة تحقيق أهلية خارج إطار الحكومة ، والدراسة العلمية المدعومة بالحقائق لوزير المياة الأسبق حازم الناصر ، ما يشير إلى أن هنالك إقراراً حكومياً صامتاً بوجوب الالتزلام بالشفافية في إطلاع المواطنين على الحقيقة ، والاقرار بالمسؤولية العامة والادبية للحكومة من خلال استقالة وزيرين ، مما قد يبشر بالولوج في نهج جديد يبتعد عن اعتبار المعلومة حِكْراً على المسؤول لا حق للمواطن بها .
العلاج الوحيد لمشكلة الشائعات التي تتشدق الحكومات بتأثيرها السلبي على المجتمع هو في الاقرار العَمَلي بحق المواطن في الاطلاع على الحقيقة في وقتها وليس بناءً على ضغط الاحداث . واللجوء إلى سلاح سَنّْ القوانين المقيَّدة لحرية التعبير والحق في التجمع السلمي سوف يؤدي إلى إزدهار الشائعات . أما استعمال سلاح حظر النشر من قبل المدعي العام في قضايا تحظى بالاهتمام الشعبي العام فيجب أن يتوقف أو أن يرافق ذلك ايضاحات مستمرة من قبل الحكومة لحقائق الأمور دون الاخلال بضرورات مجرى التحقيق . وفي هذا السياق ، من الواضح أن وزيرة الدولة لشؤون الاعلام قد فشلت فشلاً واضحاً في القيام بدورها في تعزيز الشفافية والتواصل مع الاعلاميين ووسائل الإعلام ، وإكتفت بتكرار موقف الحكومة من هذه القضية أو تلك دون أن تتمكن من فتح حوار مع زملائها من الصحفيين لتعزيز الشفافية وتمرير الحقيقة من خلالهم ، وربما يتوجب عليها أن تقوم بتقييم أدائها كوزيـرة ومغادرة موقعها الوزاري كونهـا فشلت في القيام بدورها الصحيح كوزيرة دولة لشؤون الاعلام . أما لقبها الثاني كناطقة بإسم الحكومة فهذا لا يستدعـي منصب وزير ويُكتفى بتعيين موظف حتـى ينطق بما تُميـله عليـه الحكومة . فالإعلام أصبح مفهوماً تفاعلياً يتعامل مع الحقيقة و يحمل معنى إعلام الناس بها أو بتفاصيلها وليس تلقينهم بما تريد الحكومة وهوأمر يبدوا أنه قد غاب عن ذهن الوزيرة الحالية .
وعلى أية حال ، وإذا كان هنالك من جائزة تقديرية وطنية أو وسام وطني للإنجاز والنزاهة فيتوجب مَنْحَهُ لديوان المحاسبة الأردني على تقريره الأخير مما يستوجب تعزيز الدور الرقابي لهذا الجهاز وتحصينه من تدخل الحكومات المتعاقبة والتي قد يلجأ بعضها لفعل ذلك بهدف طمس الحقيقة ، مع التقدير للحكومة الحالية على نواياها الواضحة في معالجة ما ورد في تقرير ديوان المحاسبة من مخالفات وتجاوزات مالية .
سادسا:- إن إختيار مسؤولي الصف الأول بمواصفات تؤكد على الكفاءة والنزاهة ، والإقرار بأن المنصب هو مسؤولية وليس وسيلة للحصول على لقب دولة أو معالي أو عطوفة ، هي مؤشر هام فيما لوحصل على صدق نوايا الحكم في الولوج في نهج جديد يؤكد على سيادة الدولة على نفسها وليس تبعيتها لمجموعة من المسؤولين أو الموظفين الفاسدين أو شبه الفاسدين ، بالإضافة إلى وجوب الإقرار بأن عملية اختيار مسؤولي الصف الأول يجب أن تأتي في هذا السياق بعيداً عن نهج المحاصصة الذي أوصل الوطن إلى حدود الخطر .
وأخيراً ، فإن الإصلاح السياسي يبقى هو الضمانة الأكيدة والوحيدة لصحة وعافية مسار الاصلاح وتعزيز الكفاءة ومحاربة الفساد . إن قانون إنتخاب جديد يقوم على أسس جديدة تُراعي وِحْدِة الوطن هو المدخل الصحيح لمجلس نيابي قادر على المراقبة التشريعية والمالية وعلى النهوض بالحياة السياسية ، ولكن لكل حادث حديث ودعونا نُشَجِّع البداية مهما تواضعت حتى نتمكن من الوصول إلى النهاية التي ننشدها جميعاً .
بقلم/ د. لبيب قمحاوي