للكاتب أن يحلق أحياناً، أن يحلم أو أن يركب أجنحة للفرح في لحظة من لحظات النشوة الوطنية التي تتباعد تباعاً، فقد تخيلتُ يوماً أننا سنقيم الدولة وسنذهب هناك الى القدس عاصمتنا نعزف السلام الوطني وعلى أنغامه يرتفع العلم الفلسطيني، حينها اعتقدت أنني سأنظر كل وجوه المسؤولين، سأتفقدهم واحداً واحداً ثم سأسأل: أين ياسر عرفات؟
لا يمكن للذاكرة الوطنية إلا أن تخلد اسماً انحفر عميقاً على صخور تاريخها وانكتب في كل دفاترها اليومية، فهي لم تعرف في النصف الثاني للقرن العشرين سواه زعيماً وحيداً، كان الأب المؤسس للمشروع الوطني الذي تعثر وتشتت بعد النكبة، كان اسمه الذي تحول الى رمزية نادرة موازياً لكل ما صنعه الفلسطينيون منذ أن بدؤوا أولى خطوات حَبْوِهم منذ ستينات القرن الماضي باحثين عن حلمهم وسط الركام، كيف لذلك الشاب النحيف أن يوقظ تنين الثورة الراقد في صدر الفلسطينيين المكلومين بوطنهم وقد استطاع.
كانت الكرامة معركته الأولى والتي تمكن من الصمود فيها حد الانتحار، يواجه بصدره العاري ولحم جنوده دولة نووية... لم يخش الحريق ولا اللهب المستعر في ميادين المعارك لكنه خاف الهزيمة لشعب تلقى ما يكفي من الهزائم، قبل أن يلتقط عرفات الراية من عز الدين القسام ويسير بها على درب مليء بالأشواك منتصب القامة دون أن يهتز أو يأبه بتوازنات كان يعرف أن أمواجها ورياحها تسير معاكسة لكل أشرعته التي رفعها بمسدس صغير يزنر خاصرته، وشارة نصر ظلت تطل شاهدة حتى أيامه الأخيرة بين أكياس رمل مقاطعة تحولت الى متسادا واقعية وهو يردد شعاره الأخير «شهيداً شهيداً شهيداً».
فالبطل في كل الأساطير لا يموت ميتةً عادية، فقد جسد بتاريخه كل الأساطير التي كتبتها شعوب الأرض منذ الخروج الأول والعودة الأوديسية بعد الرحيل عن الوطن وركوب البحر بعدما خاض كبرى ملاحمه في بيروت، وحتى حين عاد مكللاً بالغار بعد رحلة الشتات الطويلة ليُقبل أرضاً انتظرته طويلاً كما فعل أوديسيوس وغادر كما الأبطال. وستظل الذاكرة مفتوحة على مشهد نعش اختطفته الجماهير الباكية حزناً يوم رحيله في فوضى كان عاشقها الأول وصانعها الأول، فقد كان راحلنا خارج الطقوس والبروتوكولات، كان ابن الأسطورة الذي شاكس الجغرافيا والتاريخ كي يصنع ثورة.
درس الهندسة ليعرف كيف يحدد المسافة بين الألغام ... كان أباً زعيماً ليصبح ابناً باراً لكل الوطن وكل الرجال وكل النساء اللواتي وضعن صورته في قلوبهن يوم البكاء الكبير، كيف غادرنا هكذا دون أن يمهد لنا، مطلاً بذلك الجسد النحيل الذي حمل صخرة أطلسنا فوق ظهره المتعب بمؤامرات الأعداء وخيانات الأصدقاء من باب طائرة، ليباغتنا بقبلة الوداع كي يموت هناك بعيداً عن خيمته وكرمةِ عنبه المسروقة ولم يكن استعادها بعد.
«كان ياسر عرفات الفصل الأطول في تاريخنا» هكذا كتب شاعرنا الكبير محمود درويش، فقد كان كل انتصاراتنا صعوداً في الميدان في عيلبون ....وفي الأمم المتحدة وغصن الزيتون، في بيروت منتعلاً حذاءه العسكري ليركل كل تاريخنا العربي المثقل بالخيبات التي لم تتوقف عن التساقط على رؤوسنا.
كان يوم الرحيل في ذلك الخريف الذي تساقطت كل أوراقه حزناً في نصف القرن الأخير، وهو الزمن الممتد على مساحة قيادته في اليوم الأكثر سواداً لدى شعب يعيش على الأمل المتساقط من تأتأة حروفه المبعثرة وشارة نصر وهتاف حاد يمهر به كل خطاباته، وكأنه أخذ ما يكفي من احتياطي الأمور بعد رحيله.... وسيؤرخ التاريخ الفلسطيني أن الفلسطينيين قبل ياسر عرفات غيرُهم بعد ياسر عرفات.
قال مدير المخابرات الفرنسية لأحد مساعديه بعد أيام في المستشفى الفرنسي: لقد مات عرفات اكلينيكياً، قال المساعد: لم أفهم هل مات أم لا؟ رد مدير المخابرات «أستطيع أن أقول لك في كل الحالات المشابهة أنه مات، ولكن هذا ياسر عرفات، قد يفاجئنا ويصحو من جديد». هذا هو ياسر عرفات الذي يطل برأسه من الموت وسط النيران لدرجة اعتقدنا أنه سيلوح براية النصر شاهراً يده من التابوت، لكنه لم يفعل قبل أن نصدق أنه غادر هذه المرة الى الأبد.
غادر قبل أن نبلغ الحلم، وقبل أن نغني النشيد ونرفع العلم، لنبدأ بعده بالغرق في كومة من الأزمات والانقسامات، كأنه كان كلمة سر مشروعنا الذي تشظى بعده واستنسخ ما يكفي من المآسي والانهيارات، كلُ شيء بدا مختلفاً، لا وحدة ولا سلطة واحدة ولا انتخابات ولا شيءَ سوى صراع الأبناء على ما خلفه من ارث تبدد، لأنهم فشلوا في توزيع التركة، هذا ما حدث بعده، كأنه الأب الذي ترك أبناءه قبل النضوج.
لا تسير الحياة بالأحلام، وانكسر حلمي على قارعة الانقسام وهزيمة الذات، وصرت أتفحص الوجوه من جديد لأعرف كيف انزلقنا، ومَن الذي تسبب هنا بكل هذا؟ أو مَن سيرمم من انكسر فينا من خزف مبعثر في معركة الصراع على السلطة، لأسأل في لحظة حزن وحاجة: أين ياسر عرفات ..؟؟؟
بقلم/ أكرم عطا الله