اتخذت من حجر اتعبته عوامل تعرية البحر مقعداً بعد أن أسدل الليل ظلامه باستثناء الضوء المنبعث من الآليات العسكرية المنتشرة في المكان وضجيج محركاتها يكسر صمته، لا شيء في المكان سوى الخوف الذي يحرسه الجنود ببنادقهم الآلية وتحوطه مجنزراتهم، حين يبتلعك الخوف في جوفه لا تنتظر أن يقذف بك سوى إلى شاطيء مهجور، وحين يقترب الفشل منك تجد تأنيب الذات الأقرب الى تفكيرك، ما الذي جاء بنا إلى هنا، إلى معركة لا قبل لنا بها؟، بدأت تلك الأسئلة تتدحرج أمامي وتستحضر معها ألوان اليأس التي تدفعك رغماً عن انفك إلى مسار التراجع، ويصبح معها استرجاع ما كان هو بحد ذاته انجاز، في الوقت الذي تحول فيه المكان إلى ثكنة عسكرية جاءت لحماية مستوطن يقيم بمفرده على شاطيء البحر وسعى لتوسعة مملكة ساديته التي يمارسها على اطفالنا مستعيناً بفرقة من كلابه الضالة.
بدأ كباش البلدية بإزالة السواتر الترابية التي وضعها المستوطن توطئة لتوسيع حدود مستوطنته، ومعها بدأت تتوافد على المكان الآليات العسكرية وفتح الجنود نيران أسلحتهم في محاولة منهم لإسكات عمل الكباش، تمتع سائق الكباش "سمير المجايدة" بشجاعة الجندي المدافع عن آخر قلاعه، لم يضعف من عزيمته رتل الآليات العسكرية ولا زخات الرصاص التي تعتليه بقليل، واصل عمله بفدائية منقطعة النظير، أمام ذلك لم يجد الجنود بداً لإيقافه سوى بإطلاق الرصاص على عجلات الكباش وإعطابها، واقتادوا السائق بعيداً عن المكان بعد أن أدخلوه في أحد مجنزراتهم، بت أبحث عن سبيل للتقهقر والتراجع على أن يتضمن اطلاق سراح السائق، الشيء الوحيد الذي تمسكت به أن لا عودة لي بدون حرية السائق، الفشل رغم مرارته لا يمحق ثواب المحاولة لكن خذلاني للسائق لا شفاء منه.
بينما كانت مفردات الضعف والعجز والفشل تحاصرني من كل الجهات، ولا أجد ما يؤنس في تداخل انارة الآليات العسكرية وظلام الليل سوى الحجر الصخري الأبيض الذي اتخذته مقعداً، تمنيت لو أن الجنود يأتون بمقترح أن أجر ذيول الخيبة مع آلية البلدية المعطلة ومعي السائق ونكتفي نحن بالمحاولة حتى وإن كان الفشل نصيبها، بينما تموضع التفكير في تلك الدائرة دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل تخرجنا منها، جاء رنين الهاتف النقال الذي كان قد دخل عالمنا حديثاً، بتثاقل المشهد اجبت على المتصل الذي أجهله والذي سارع بالقول الرئيس يريد أن يتحدث اليك، عن أي رئيس يتحدث؟ وما الذي يريده؟ وماذا عساني أن أقول له؟، قبل أن يسعفني الوقت للغوص في متاهة هذه الأسئلة جاء صوت الرئيس "ابو عمار"، لم أتوقع اتصاله وهو المنغمس من راسه حتى قدميه في الأوراق المكدس بها مكتبه واللقاءات الرسمية لضيوف يأتون إليه من أصقاع المعمورة، كانت المرة الأولى التي أتحدث فيها مباشرة معه، سأل عن الموقف وقبل أن أجيبه سأل إن كانوا ما يزالون يحتجزون السائق، دهشتي من السؤال لم توقف القوة التي بدأت تسري في دمي، وواصل حديثه القوي المفعم بالثقة " هم مش عارفين أنه نحن شعب الجبارين"، وأن اصغر طفل لدينا بإستطاعته مواجهة ترسانتهم العسكرية لأننا أصحاب حق وإرادة لا تلين، الآن سيأتي طرفكم الفريق المجايدة ومعه بعض الأخوة، هذا شعب الجبارين ويا جبل ما يهزك ريح، كررها عدة مرات قبل يختم حديثه "الصمود الصمود".
كأن صوته القوي ونبرته المشبعة بالثقة انتزعتني من مقعدي الحجري، ومنحني قوة أطاحت أرضاً بكل تفاصيل الانكسار والضعف، لم يعد يخيفني رتل العسكر المنتشرين في المكان وهم يتلاعبون بأسلحتهم، ولم أعد أبحث عن مخرج يحفظ لنا القليل من ماء الوجه تعد، ولم أعد أشعر بالوحدة التي لازمتني قبل أن يصلني صوته، لم يتأخر الفريق المجايدة ورفاقه من الأجهزة الأمنية واتفقنا على ألا نقبل بأنصاف الحلول، حاول جنود الاحتلال أن يصلوا لإتفاق نخلي من خلاله المكان على أن يقوموا لاحقاً بإزالة التوسعات التي أحدثها المستوطن فرفضنا ذلك كي لا نقع فريسة التسويف التي يجيدها الاحتلال، مع صباح اليوم التالي بدت الجماهير تتوافد للمكان واستمر إعتصامنا فيه لثلاثة أيام بلياليها إلى أن أجبر الاحتلال على إعادة المكان إلى ما كان عليه في السابق.
عرج الرئيس في اليوم التالي خلال إجتماع مجلس الأمن القومي على ما حدث، وأثنى كثيراً على الفدائية التي تحلى بها سائق الكباش واصفاً إياه بالجنرال السائق، وطلب من الفريق المجايدة بصحبة وفد من مجلس الأمن القومي بزيارة البلدية وتقديم شهادة تقدير، رغم أن المفاوضات مع الاحتلال في تلك الآونة كانت تسير بشكل طبيعي إلا أن ذلك لم يحجب عنه ايمانه بأن الحقوق وإن بدت صغيرة في بعض جوانبها إلا أننا بحاجة إلى إنتزاعها من إحتلال لا يتقن سوى التسويف والمماطلة، ورغم أن برنامج الرئيس اليومي كان يعج بالمواعيد مع قادة العالم والأحداث الجسام في المنطقة إلا أنه حرص على متابعة أدق التفاصيل إلى أن إطمأن بإطلاق سراح السائق، هكذا يكون القائد وإلا فلا.
د. أسامه الفرا