مؤقتاً، يكون نتنياهو قد تجاوز، عقدة حل الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، لا يريدها، لقد عاد قوياً كعمود الخيمة، بعد أن وضع حلفاءه في الحكومة، في زاوية حرجة، حين رفع مستوى الخطر القومي فوق الأزمة الداخلية، والحسابات الشخصية والفئوية لزملائه في التحالف الحكومي. تراجعوا جميعاً من بينيت إلى شاكيد إلى كحلون عن عزمهم على الاستقالة وحل الحكومة، بل وجعلهم في موقف ضعيف امام خياراته، فليقل أي أحد ما يراه في شخصية نتنياهو، الذي يلعب بالثلاث ورقات، والمراوغ، لكنه يسجل لنفسه بأنه الساحر الذي عرف كيف يتجاوز حتى بن غوريون وغولدا مئير في فترة تسلمه رئاسة الحكومة. ويستطيع نتنياهو أن يسجل سيرة ذاتية مهمة جداً في تحقيق إنجازات استراتيجية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية، يستطيع نتنياهو أن يدعي، بأنه من حقق سياسة شامير، الذي حضر مؤتمر مدريد عام 1991، نزولاً عند ضغط وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر، وكان قد عبر عن رفضه بالقول «إذاً، انتظروا مفاوضات لعشرين سنة أو أكثر». قتل رابين نهاية عام 1995، لكن نتنياهو هو صاحب الدور الأكبر في قتل عملية السلام، وألقى أكواماً من التراب فوق جثة اتفاقية أوسلو، ورؤية الدولتين.
وظنّي أن نتنياهو رفض وقاوم ونجح في إبعاد فكرة الانتخابات المبكرة، ليس خوفاً من أن يفقد هو وحزبه، الأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة، ذلك أن استطلاعات الرأي تعطي الليكود نحو ثلاثين مقعداً، يليه وفق استطلاعات الرأي حزب «يش عتيد» بثمانية عشر مقعداً. ولا يخشى نتنياهو الذي عزز قيادته لليكود بعد أن اكتشف محاولات الانقلاب في الحزب، من أن تفلت الحكومة من أيدي اليمين المتطرف، إذ إن استطلاعات الرأي لا تعطي فرصة للمعارضة الضعيفة التي لم تنجح في استثمار نقاط ضعف الحكومة.
نتنياهو يقدر قيمة الوقت، ذلك أن الانتخابات المبكرة من شأنها أن تستغرق أشهراً قبل أن تتشكل الحكومة وتتمكن من اتخاذ القرارات، فيما هو يحتاج إلى كل لحظة في زمن وجود ترامب على رأس البيت الأبيض حتى يحقق قفزته الكبرى، بتدمير رؤية الدولتين، ومصادرة الضفة الغربية والجولان المحتل، والتمكين من القدس.
غير أن استبعاد فكرة الانتخابات المبكرة، ومواصلة العمل بحكومة ضعيفة بواحد وستين مقعداً من أصل مئة وعشرين هو قوام الكنيست، يطرح أمام نتنياهو خيارات محدودة.
الخطاب الذي ألقاه نتنياهو في مقر وزارة الدفاع، كان خطاباً حربياً بامتياز بدلالات المفردات، وبدلالات المكان، لكنه احتفظ ببعض الغموض، إزاء الوجهة التي ستسير إليها السياسة الإسرائيلية، لقد اختلفت التحليلات والآراء، بشأن ما إذا كانت هذه الوجهة نحو تصعيد في الشمال، أو تصعيد في الجنوب. على أنه من الواضح أن ثمة عزماً على إعادة بناء قدرة الردع المتآكلة للجيش الإسرائيلي، وإعادة بناء صورة إسرائيل القوية، صاحبة القول الفصل. كخطوة أولى يسعى نتنياهو لمراكمة المزيد من الإنجازات في موضوع التطبيع بعد نجاحه الدراماتيكي الذي تمثل بزيارته للعاصمة العُمانية مسقط.
يبدو أن ثمة من يتابع وضع اللمسات الأخيرة لترتيب زيارة رسمية لنتنياهو، إلى دولة إسلامية لا تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل، والمرجح أن تكون دولة البحرين. من المؤكد أن هدفاً كهذا، يعزز من مكانة نتنياهو، وقدرته على إقناع حلفائه المشاغبين، لكنه لا يكفي لإسكات الانتقادات، والاحتجاجات المستمرة على خلفية فشل إسرائيل في غزة، وتآكل قدرة الردع، وتراجع الشعور بالأمن. غير أن تحقيق هذا الهدف المهم، لا يمكن أن يتم، خلال أو بعد قيام إسرائيل بتصعيد يستهدف إعادة بناء صورتها وقدرتها على الردع، ولذلك كان هذا التصعيد مؤجلاً لبعض الوقت. المنطق الموضوعي يقول إن إسرائيل تتجه نحو التصعيد مع قطاع غزة، فهي بالنسبة لها الجبهة الأضعف أولاً ثم انها الجبهة التي شوّهت مؤخراً صورة إسرائيل ومكانة جيشها.
وبرأيي لم تعد إسرائيل مهتمة إلى حد التقيد، بمعادلة بقاء الانقسام الفلسطيني، ذلك أن ما ورد حتى الآن من صفقة القرن، وما ينتظر لا يحتاج إلى بقاء الانقسام، إن كان بقاؤه، عبئاً على المؤسسة العسكرية والأمنية، ومثار احتجاجات المستوطنين، والمعارضة، وبعض أطراف التحالف.
ينهض السؤال حول مستقبل الأوضاع في قطاع غزة في حال قامت إسرائيل بعملية عسكرية واسعة، لا تتقيد أهدافها بحسابات الحروب السابقة، ولا ينجم عنها فراغ أمني أو فوضى، طالما أنها لا ترغب في إعادة السيطرة على القطاع.
في هذه الحالة تنتظر إسرائيل، تحقيق المصالحة، وعودة السلطة للتمكن من الحكم في غزة، الأمر الذي لا يمكن أن يحصل بعد أن تكون إسرائيل قد قامت بعملية عسكرية واسعة في قطاع غزة.
في الحقيقة، ثمة ما يمكن تعلّمه من العدو الإسرائيلي، فلقد لاحظ الجميع، كيف يتجاوز أطراف التحالف وحتى المعارضة، الخلافات الداخلية، حين تتعرض البلاد لخطر خارجي كالذي تمر به إسرائيل.
هذه الأيام، الفلسطينيون يواجهون خطراً استراتيجياً على حقوقهم وقضيتهم، وحتى على وجودهم، لكن الحسابات الفئوية الخاصة، والتناقضات الداخلية، لا تزال تعلو فوق الهموم الوطنية العامة.
إذا كانت إسرائيل تحضّر لعدوان واسع على القطاع، قد تكون بدايته غادرة ومفاجئة، فإن من المرجح أن تتوجه نحو حسم معركة الخان الأحمر، التي لعبت بدورها، وبصمود الفلسطينيين، دوراً في تبهيت صورة الجيش الإسرائيلي، الذي فشل في تنفيذ قرار المحكمة العليا القاضي بإخلائه.
بقلم/ طلال عوكل