يبدو أنه في الآونة الأخيرة تم تدجين عقولنا نحن الكتاب أيضاً، بحيث لم نعد نكتب سوى عن مشكلات الداخل، كأن شعبنا في الخارج المعلق بين السماء والأرض خارج اهتماماتنا، ربما ليس ذنبنا فقط ولكن حجم ما يتساقط علينا من أزمات في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وما يحدث من انقسام وتآكل مشروعنا الوطني أغرقنا في مستنقع الأزمة، ولم نعد نرى مآسي دامية يُسحق فيها شعبنا بلا رحمة.
ما حصل في مخيم اليرموك ليس مصادفة وهو عاصمة الشتات الفلسطيني ورافع لواء حق العودة في دولة قومية، وما حدث قبله في مخيم نهر البارد أيضاً وتدميره لم يكن مصادفة أيضاً، وليس مصادفة أنه لم يتم إعماره حتى الآن وهو الذي يقع في الشمال اللبناني وفي منطقة النفوذ المذهبي لرئاسة الحكومة، ولا أحد يسأل في ظل الإعصار الذي اجتاح الإقليم ما الذي يحدث، لكنه ببساطة القضاء على مسألة اللاجئين الفلسطينيين وهم الهاجس الأكبر لإسرائيل.
ولكن المشكلة السياسية تخفي تحتها أكبر المآسي الإنسانية كما كل حروب التاريخ، حين كانت تلقي الطائرات الحمم والنيران كان نزيف الدم والدموع، كما قال ونستون تشرشل، هو الوجه الآخر للحروب التي تفقد انسانيتها، ولم تبق المشكلة في معاناة الأهل في الضفة الغربية والاستيطان والحواجز ولا بغزة التي داهمها الفقر والجوع والمرض وانهيار كل شيء، فقد عصفت الحرب السورية باستقرار وانسانية أهلنا في مخيمات سورية التي كانت يوماً رمزاً للاستقرار والعودة.
مناشدات اللاجئين وصلت أصداؤها الى هنا، حيث صرخات الأهالي الذين ألقت بهم الحرب على الحدود الشمالية الباردة في هذا الشتاء القارس في مخيمات مؤقتة تتحول الى دائمة بحاجة الى تدخل عاجل واغاثة سريعة، إغاثة لا تنتظر ترف المصالحة والحوارات المزمنة التي اعتاد عليها الفلسطينيون المشغولون هنا بالصراعات على السلطة ومهاجمة بعضهم بلغة هبطت الى أدنى مستوياتها، فللسلطة وهجها ومدافعيها.
لقد هرب شعبنا في "اليرموك" من جحيم الحرب محاولاً البحث عن شتات آخر أكثر رحمة من شتاته. ذهب شمالاً ربما يجد في الدخول الى تركيا حياة غير الحرب هم وأطفالهم، فأقاموا في الشمال السوري، حيث يتم منعهم من دخول تركيا، فقد أقاموا في مخيمات لاجئين من الخيام حيث 350 عائلة تقيم في مخيم أطلقوا عليه دير بلوط في منطقة عفرين على الحدود التركية و75 عائلة تسكن مخيم الشبية في اعزاز بريف حلب الشمالي.
يواصل فلسطينيو سورية في مخيم دير بلوط الاعتصام للشهر الثاني على التوالي، مناشدين الرئيس التركي السماح بدخولهم الى الداخل التركي تحت شعار "اعتصام الكرامة"، وذلك في ظل تدهور الأوضاع المعيشية مع موجة البرد القارس التي تضرب المخيم والأمطار التي أدت الى غرق العديد من الخيام وانعدام الرعاية الصحية وانتشار الأفاعي، حيث أن المخيم يتواجد في منطقة حرشية تعرف بوادي الأفاعي.
الكوارث تحيط بشعبنا من كل الاتجاهات، وما أن تكتب عن أزمة حتى تندفع الى أخرى نلاحقها كالمنكوبين في كل شيء، لكن القضايا الانسانية هي الأكثر إلحاحاً، وقد بدأ فصل الشتاء ولنا أن نتخيل طبيعته القاسية في الشمال السوري حيث الثلوج، ولنا أن نتصور كيف يعيش الأطفال وكبار السن في خيام بلا تدفئة أو مؤونة الشتاء أو ملابس أو أغذية أو رعاية صحية أو اهتمام من المنظمات الدولية، هكذا شعبنا ملقى نحو حتفه لا يعرف من يناشد.
الحقيقة أن تلك مسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولة عن الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وواجبنا أن نلفت انتباهنا أن هناك كارثة انسانية لجزء من شعبنا في منطقة ما، يبكون ويتسولون ولا مجيب لهم، يواسون أنفسهم بالمناشدات والبكاء ويحضنون أطفالهم بين الثلوج ومرارة اللجوء والحرمان من أبسط المقومات الانسانية، والمنظمة هي المؤسسة الشرعية التي تملك حق التدخل وتملك من الامكانيات ما يمكنها من حل أزمة هؤلاء، سواء بمحاورة الدولة التركية التي تتركهم في هذا العراء أو بتقديم المساعدات لهم.
لقد جعلتهم الحرب بقايا بشر تحطمت آمالهم وتنازلوا عن حق العودة للوطن، وكل ما يشغلهم هو الرحيل أبعد والهجرة نحو منافٍ أكثر قسوة، لأن انعدام الكرامة الانسانية والحياة الآدمية تقتل أي حلم آخر سكنهم لسبعة عقود، ولسوء حظ الفلسطيني العاثر فقد كان قدره أن يدفع ثمن اهتزاز الاقليم، وأن يدفع ثمن الاختلاف بين دولتين أو مجموعتين أو ضابطين.
ما يهمنا في ما حدث في الاقليم المحطم هو شعبنا الأعزل في كل الأماكن الذي وقع ضحية كل تلك الصراعات، ولا أحد يمكن أن يرى ببراءة كيف تآكلت قضية اللاجئين أو كيف جرى التخلص منها وسط هذه الصراعات، ولا أحد يتصور أنه وسط الفوضى الخلاقة التي اندلعت فجأة كانت إسرائيل تقف متفرجة، لأنها تعرف جيداً كيف تخرج رابحة من كل حدث، ويبدو أن هذا ما حدث اذا ما دققنا بمخيمات الخارج، ليس فقط التي أبيدت مثل "البارد" و"اليرموك" بل مخيمات أخرى يجري تفريغها سنصل الى نتيجة.
لكن الأهم والعاجل هو تلك المأساة التي تحصل في الشمال السوري. والكل مدعو للتدخل، فهناك أطفال في الثلوج بلا مأوى اقتلعت الأمطار خيامهم وهم بحاجة لإغاثة من قبل منظمة التحرير أولاً، والمنظمات الدولية والدولة التركية التي تغلق أمامهم كل الأبواب، وقوى فلسطينية لها امتدادات في سورية وتفاخرت بعلاقتها بتلك الدولة، ومن حقنا أن نطالبها باستحقاقات تلك العلاقة، ولا نقبل لشعبنا أن يظل شريداً وطريداً للأبد، وفي كل زاوية من بقاع الأرض مأساة وفي كل شبر مرثية للحزن ..!!!
بقلم/ أكرم عطا الله