على الرغم من عملية التسخين النظري، المتزامن مع استمرار التدريبات، وما يقال عن أن الجبهة الشمالية بالنسبة لإسرائيل هي الأكثر خطراً، إلاّ أن البدء بحملة عسكرية لتدمير أنفاق «حزب الله»، كان مفاجئاً ودون مقدمات. تتحدث إسرائيل عن عملية واسعة ومستمرة لأسابيع، وكأن هذا النشاط الحربي، يندرج في إطار الدفاع عن الذات. المعلومات التي تصدر عن مسؤولين أمنيين، وعسكريين وبعض المحللين، تتحدث بقدر من الغموض عن عدد الأنفاق التي تخشى إسرائيل من أنها ستكون ممراً لمقاتلي «حزب الله» في أي حرب قادمة «لاحتلال» بعض مستوطنات الشمال.
تتعمّد الأوساط الإسرائيلية تجنب إطلاق تصريحات تشير إلى علاقة النشاط لمواجهة أنفاق «حزب الله»، بحرب وشيكة على لبنان، أما الحديث عن أن إسرائيل تواصل مواجهة الوجود الإيراني، ونقل الأسلحة لـ»حزب الله»، فهي لغة قديمة ومستمرة كل الوقت.
ومع أن كل النخب السياسية في الحكومة والمعارضة، تدعم النشاط الذي يقوم به الجيش، إلاّ أن المعارضة تتهم نتنياهو، بأنه بادر إلى ذلك، للتغطية على عجز حكومته، غير المستقرة، ولتوجيه الأنظار والاهتمام بعيداً عن الملاحقة القانونية بشأن ملفات الفساد التي تطال رئيس الحكومة وعائلته. لقد أكدت التجربة العملية أن إسرائيل تذهب إلى تعظيم الخطر الخارجي، وربما تشن حروباً، حين تواجه حكوماتها أزمات تهدد بحلها، في أوقات لا ترغب فيه القوة المسيطرة بالذهاب إلى انتخابات مبكرة. في هذه المرة، يضاف إلى الأزمة التي تواجهها حكومة اليمين المتطرف، تهديدات تتعلق بحاضر ومستقبل رئيسها الذي يتميز بالأنانية المفرطة، والرغبة في أن يُتوَّج ملكاً لإسرائيل يتفوق في سنواتِ ممارسة موقع رئاسة الحكومة على بن غوريون وغولدا مائير.
لقد تلقى نتنياهو وحكومته صفعة من المقاومة في غزة خلال المواجهة المحدودة الأخيرة، تسببت في وقوع أزمة حقيقية، وتلقت خلالها الحكومة ورئيسها، الكثير من الانتقادات والاحتجاجات الشعبية، لكنه استطاع أن يحرك نجاحاته في مجال التطبيع مع عدد من الدول العربية، وتشاد، في محاولة لإبراز نجاحاته، لكن كل هذه النجاحات لم تسعفه للتهرب من الاستحقاقات القانونية بحقه.
ولكن، ومع أن الجبهة الشمالية فعلياً تشكل التهديد الأكبر لإسرائيل، حيث تواجه الوجود الإيراني، وتقدم النظام السوري في السيطرة على أراضي الدولة، وتواجه، أيضاً، «حزب الله» الذي يمتلك إمكانيات، عسكرية كبيرة، إلاّ أن ذلك لا يعني تجاهل جبهة الجنوب حيث المقاومة في غزة.
قد ينطوي الاهتمام المفاجئ بأنفاق «حزب الله» في الشمال على قدرٍ من التضليل المقصود، إذ لا مؤشرات تدعو للاعتقاد بأن إسرائيل قررت شن حرب في الشمال، خصوصاً بوجود روسيا التي تقيد حركة الطيران الإسرائيلي بعد إسقاط الطائرة الروسية.
ما أشير إليه، هو احتمال أن يكون النشاط في الشمال يهدف لحرف الأنظار عن عدوان عسكري إسرائيلي واسع في الجنوب ضد قطاع غزة.
ثمة بضعة أسباب تدعو للحذر من وقوع هذا الاحتمال:
أولاً: لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهل خطر وجود إمكانيات عسكرية كبيرة لدى المقاومة في قطاع غزة، الذي يقع في خاصرة إسرائيل، ولديها أي المقاومة كل المبررات، لاستخدام هذا السلاح باعتبار أنه حق للفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وتحرير الأرض.
ثانياً: إن الحرب على الجبهة الشمالية، تتخذ طابعاً دولياً واسعاً، ذلك أنه يندرج في إطار الصراع الإقليمي والدولي، ولذلك فإن فتح تلك الجبهة يخضع لحسابات دقيقة، نظراً لما ينطوي عليه من مخاطر. إن الظروف الراهنة، لا تسمح لإسرائيل ومعها الولايات المتحدة بأن تخلط الأوراق كلها في المنطقة، قبل أن تنجح الولايات المتحدة في بناء التحالف السنّي الذي تحدثت عنها، وطالما لم يتم بعد توثيق العلاقة بين إسرائيل والدول العربية المعنية بمواجهة الخطر الإيراني.
ثالثاً: غزة هي التي تسببت في اندلاع الأزمة التي تعاني منها حكومة اليمين المتطرف، ابتداءً باستقالة وزير الدفاع، وهي السبب في اتساع دائرة النقد، لتخاذل الحكومة وتدهور قوة الردع الإسرائيلية.
رابعاً: بينما كانت الجبهة الداخلية في الشمال هادئة منذ وقت طويل فإن الفشل الإسرائيلي في غزة، أدى إلى اندلاع احتجاجات لم تتوقف من قبل المستوطنين في غلاف غزة. صحيح أن الحكومة اتخذت قراراً بتخصيص سبعمائة مليون دولار لتحسين بيئة المستوطنين في غلاف غزة، لكن ذلك كله لا يحل مشكلة الأمن التي تشكل المعضلة الأساسية للمستوطنين الذين عليهم أن يكونوا دائماً بالقرب من الملاجئ.
سادساً، ينبغي للمقاومة في غزة، أن تدرك بأنها تشكل هدفاً على طاولة استحقاقات «صفقة القرن» في بعدها الإقليمي، فضلاً عن أنها استحقاق مهم بالنسبة لأمن إسرائيل.
وبصراحة لا يمكن تجاهل تباطؤ إسرائيل في تنفيذ استحقاقات التهدئة التي توجب عليها تقديم العديد من التسهيلات، الأمر الذي يؤدي إلى تصعيد في لهجة التحدي من قبل الفصائل التي عبرت عملياً عن التزامها الفعلي بشروط التهدئة كما تم التفاهم عليها مؤخراً عبر الوسيط المصري، والوسيط الأممي.
بقلم/ طلال عوكل