إن إطلاق الرصاصة الأولى لحركة "فتح" في الأول من يناير /كانون الثاني لعام 1965م، كان إيذاناً جديداً وبياناً عاماً من هذه الطليعة النضالية التي أخذت على عاتقها مواجهة هذا المشروع الإستعماري الكلونيالي العنصري الذي إستهدف فلسطين وتمكن من إغتصاب أكثر من 78% من أرض فلسطين وتهجير أكثر من نصف الشعب الفلسطيني سنة 1948م وليحولهم إلى لاجئين مشردين، وذلك بتواطئ من القوى الإستعمارية الغربية، مستغلاً حالة التفكك والضعف العربي وخضوع العديد من البلدان العربية لسيطرة وهيمنة تلك القوى، وما أفرزته الحربين العالميتين من حالة فوضى في العلاقات الدولية، قادت إلى توازنات جديدة سهلت عملية الإغتصاب وإقامة مجتمع الإستيطان الصهيوني لكيانه الغاصب فوق ثرى فلسطين.
كانت أولى عمليات الثورة الفلسطينية (فتح) في ليلة 01/01/1965م ((عملية عيلبون)) التي إستهدفت مشروع تحويل مياه نهر الأردن عن مجراه بإتجاه النقب لحرمان الأردن والضفة الغربية الفلسطينية التي كانت تحت السيادة الأردنية من حقهما في مياه النهر، وقد كان رد الفعل الصهيوني مهدداً ومتوعداً هذه الحركة ومن يقف وراءها أو يساندها، وهي بالمقابل ردت على التهديد بالتهديد والوعيد من أي إنتقام قد يقدم عليه الكيان الصهيوني ضد المدنيين أو ضد أي جهة عربية، وهنا بدأ الشباب الفلسطيني يتساءل عن حركة "فتح" وجناحها العسكري (قوات العاصفة) وبدأ يدرك أن الكفاح المسلح الذي بدأته هو السبيل الوحيد لإدراك العالم معنى المعاناة التي وصلت بالشعب الفلسطيني جراء إغتصاب وطنه، وهنا تحول الفلسطيني من لاجئ ينتظر الإحسان إلى ثائر يناضل من أجل إستعادة حقوقه المغتصبة في وطنه وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير، ولم تتوانى حركة "فتح" كثيراً في الإعلان عن هويتها الوطنية والقومية، من خلال مبادئها وأهدافها، فلسطينية الوجه عربية العمق وإنسانية الإمتداد.
وبعد العدوان الصهيوني في العام 1967م، وإكتمال إحتلاله للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان يظن أنه قد نال أيضاً من حركة المقاومة الفلسطينية، ولكن العكس كان صحيحاً فأعادت الحركة ترتيب صفوفها وتنظيمها وأنطلقت ثانية تبني القواعد العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة بقيادة قادتها المؤسسين ويتقدمهم الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات (أبو عمار) وإطلاق عملياتها العسكرية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة مزلزلة أركان إحتلاله وتقض مضجع مستوطنيه، وتصاعدت عملياتها العسكرية عبر نهر الأردن والجولان السوري المحتل وكذلك عبر جنوب لبنان، وكان رد العدو على تصاعد هذه العمليات، إجتياحه لغور الأردن في صبيحة 21/آذار/1968م وكان قرار القيادة الطليعة النضالية التصدي والمواجهة لقواته الغازية المؤللة فكانت معركة الكرامة التي أبلت فيها حركة "فتح" وقوى المقاومة من القوات الشعبية والجيش العربي الأردني الباسل بلاءاً حسناً ألحق الهزيمة بالقوات الغازية، ما دفع العدو إلى أن يطلب وقف إطلاق النار لأجل إخلاء قتلاه وجرحاه وبقية قواته المتورطة في العدوان بعد معركة دامت خمسة عشر ساعة تكبد فيها مئات الإصابات بين قتيل وجريح وتدمير عشرات الآليات والمدرعات الصهيونية، مثلت معركة الكرامة محطة مهمة في تاريخ النضال الفلسطيني والعربي، كونها جاءت بعد هزيمة 1967م مباشرة، فكان تدفق المناضلين إلى صفوف "فتح" من الفلسطينيين ومن العرب على السواء، وأكدت معنى المقاومة وجدواها في مواجهة العدوان، وفي النضال من أجل إسترداد الحقوق، وهنا أصبحت المقاومة الفلسطينية التي فجرتها حركة "فتح" رقم صعب في معادلة الصراع، ومن خلال نضالها الدؤوب تمكنت حركة "فتح" من تولي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار جبهوي يضم كافة القوى الفلسطينية المقاومة للمشروع الصهيوني، وتقدمت "فتح" برؤيتها السياسية للحل وهي إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المدنية على كامل أرض فلسطين، كنقيض للمشروع الصهيوني الكولونيالي العنصري، والذي لا يزال يمثل الهدف الإستراتيجي الأعلى للنضال الوطني الفلسطيني الذي تنخرط فيه كافة فئات شعبنا ويجد التأييد والمساندة من كافة القوى المعادية للصهيونية والعنصرية.
وبعد مسيرة طويلة حافلة بالإنجازات على طريق تجسيد الحلم وتحويله إلى حقيقة، والمرور بالمنعطفات الكبيرة والمحطات المختلفة، والتطورات السياسية والتغيرات الإقليمية والدولية الذي شهدها العالم خلال نصف القرن المنصرم، يقف الشعب الفلسطيني بقيادته الوطنية وعمودها الفقري حركة "فتح" صامداً شامخاً في وجه كافة التحديات والمخططات التي تسعى إلى تقزيم أهدافه الوطنية، ويزداد التحدي ضراوة مع إنكشاف المواقف الصهيونية والمدعومة من القوة الإمبراطورية الأمريكية وريثة الإستعمار القديم والجديد في رعاية المشروع الصهيوني وترسيخه ودمجه في المنطقة العربية، وطمس الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً بعد قرارات الرئاسة الأمريكية في 6/ ديسمبر بشأن القدس، يؤكد شعبنا وقيادته في هذه الذكرى على صلابة الموقف الفلسطيني ورفضه لهذه المواقف والسياسات مؤكداً على حقائق الموقف الفلسطيني أن لا سلام مع الإحتلال والإستيطان .. ولا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967م وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194 لعام 1948م، ويؤكد على ضرورة تراجع الإدارة الأمريكية عن قراراتها بشأن القدس ونقل سفارتها إلى القدس وأن تعلن إلتزامها الشرعية الدولية وقراراتها كمرجعية قانونية لأية عملية سلام تستهدف الوصول إلى تسوية واقعية مقبولة، وعدم إنفراد أمريكا برعاية المفاوضات بعد إنكشاف إنحيازها المطلق وتطرفها الذي فاق كل تصور إلى جانب كيان الإستيطان العنصري التوسعي، مؤكدين على أن تكون الرعاية للمفاوضات لمؤتمر دولي فاعل تشارك فيه كافة القوى والمجموعات الدولية، كي يضمن له الفاعلية والنزاهة والموضوعية وتكون قراراته ملزمة لكيان الإحتلال وفق مرجعية قانونية تلتزم قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ونخص القرار 181 لسنة 1947م الذي نص على حل الدولتين .. والقرار 194 لسنة 1948م الخاص بعودة اللاجئين وبقية القرارات التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإنهاء الإحتلال والإستيطان، لذا فإن مهام وتحديات العام الجديد 2019م كبيرة ومفصلية أمام شعبنا وقيادته وحركته العملاقة، تفرض رص الصفوف وتوحيد الجهود ونبذ الإنقسام والإنقساميين وإعادة بناء الحاضنة الشعبية الفلسطينية والعربية والدولية، ووقف حالة التآكل لها، إنه عام تجسيد الدولة والقدس العاصمة.
اليوم ونحن نحيي هذه الذكرى المجيدة نستذكر بفخر وإعتزاز طليعتها النضالية التي أخذت على عاتقها تفجير هذه الثورة وقيادة هذه الجماهير الفلسطينية التي توحدت خلف هذه القيادة التي أوقفت عملية الطمس والذوبان للشعب الفلسطيني، ونستذكر آلاف الشهداء والجرحى والأسرى وننحني إجلالاً وتقديراً لنضالهم وتضحياتهم، ونؤكد على الإستمرار على نهجهم حتى تتحقق الأهداف التي إنطلقت من أجلها حركة "فتح"، جيل بعد جيل، حتى تحقيق الإنتصار.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس