مسلسل العنف والجرائم التي تغذيها العصبوية والعشائرية في مجتمعنا الفلسطيني، وكذلك الخلافات المستعرة ولغة التحريض والتحريض المضاد وعبارات التكفير والتخوين والإعتقالات السياسية المتبادلة بين طرفي الإنقسام، وصولاً الى الإعتداءات الجسدية التي طالت عناصر من الطرفين وكذلك جريمة حرق مقر تلفزيون فلسطين في قطاع غزة، أياً تكون الجهة الفاعلة أو القائمة عليها فهي مدانة ومرفوضة، ومطلوب من السلطة القائمة هناك أن تقف عند مسؤولياتها ضد من قاموا بهذا العمل الأهوج وتحاسبهم بشكل رادع، وأيضاً هبوط اللغة السياسية الى مستوى الردح والردح المضاد والإسفاف والخروج عن كل ما هو مألوف، كل ذلك يؤشر الى أننا ذاهبون نحو كارثة حقيقة، سيكون لها تداعياتها الخطيرة على وحدتنا المجتمعية والوطنية، وبما يهدد قضيتنا الوطنية بالتفكك وإنهيار المشروع الوطني، وبما يعكس عمق أزماتنا المجتمعية والسياسية، الأخذة في التعمق والتأبد، دون وجود مؤشرات على أن الخروج منها بات قريباً.
الجميع يدرك تماماً حجم ما نعانيه من إنهيار تام في شبكة منظومتنا القيمية والأخلاقية والثقافية والفكرية، بحيث لم تعد هناك ضوابط أو كوابح ولا خطوط حمراء ولا صفراء، وعمليات القتل متواصلة وبإستهتار ودون مراعاة لأي وازع أخلاقي أو ديني أو قيمي، وتجري على أسباب تافهة وسطحية، وهي باتت ظاهرة تهدد بشطر وتفكك النسيج المجتمعي وتدميره، وخلق ندب عميقة وثارات متوارثة في المجتمع يصعب دملها أو تجاوزها، وهي كذلك أضحت مقلقة وخطرة جداً في الداخل الفلسطيني- 48، حيث قتل خلال العام الماضي 75 مواطناً أخرهم شاب من قلنسوة، بما يهدد بتحول المجتمع الى مليشيات وعشائر وقبائل وتجمعات سكانية...وليس أقل عنها ظاهرة " الطوش" والإحتراب العشائري والقبلي والعربدات والزعرنات والتعدي على حقوق وممتلكات الناس في القدس وباقي الضفة الغربية ، والتي لا تلقى رادعاً، حيث لم يعد الوعظ والإرشاد والتوجيه والخطب والجماعات و"اللمات" والندوات والمحاضرات بقادرة على وضع لهذه الظواهر المقلقة، أو حتى تخفيض مستواها في المجتمع، بل هي تزداد يوماً بعد يوم، وتأخذ أبعاداً خطيرة في التجييش العشائري والقبلي والجهوي.
وهذه الظواهر تشكل تحدياً خطيراً للمجتمع يتفوق على خطر الإحتلال، ومن يسمون أنفسهم بأهل الحل والعقد بات لزاماً عليهم البحث عن حلول تحمل الطابع النوعي والإبداعي، والتي تصمد وتدوم في أرض الواقع، وليس الحلول الترقيعية، بحيث تمنع إستفحال مثل هذه الظواهر ومحاصرتها تمهيداً لتخفيضها الى أقصى حد ممكن.
واستفحال مثل هذه الظواهر يُسجل نجاحات للمحتل في إختراق وتفكك نسيجنا المجتمعي، وهذه جبهة خطيرة من شأنها دفعنا الى كارثة حقيقة ..الفوضى العارمة والإقتتال والإحتراب الداخلي..وعدم الشعور بالأمن والأمان، لكي تصل الأمور الى حد دفع الناس للقول بأن بقاء الإحتلال "جنة" لما يحصل في واقعنا وحياتنا الإجتماعية من قتل وتخريب وتدمير.
في حين ما نشهده على صعيد الجبهة الوطنية والحزبية والسلطتين القائمتين في قطاع غزة والضفة الغربية، واللتين يفترض أن تعملا على تحصين الجبهة الداخلية ومناعتها وحمايتها من تلك الأمراض المجتمعية، وصيانة السلم الأهلي والمجتمعي، نجد أنهما تعيشان أزماتهما العميقة في التناحر الداخلي والصراع على سلطة منزوعة الدسم، بما يسمح للقوى والمليشيات العشائرية والقبلية والقوى المستفيدة من الشرذمة والإنقسام، من أن تغرز أنيابها المسمومة في الجسد الفلسطيني، وبما يضعف من مناعته ويسمح بتمرير مشاريع سياسية خطرة مشبوهة، في مقدمتها ما يسمى بصفقة القرن، وبما يمكنها من شطب مرتكزات البرنامج الوطني ( القدس واللاجئين)، وإنتفاء خيار حل الدولتين.
مثل هذه الظواهر تصاب بها الشعوب المهزومة...ونحن كعرب قيادة وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني وشعوب هزمنا، والهزيمة شاملة وبدرجات متفاوتة....
يجب علينا الآن أن نبحث عن حلول جدية وحقيقية لمثل هذه الظواهر، التي تدفع بنا نحو كارثة حقيقية، من أجل تمكين وتحصين جبهتنا الداخلية، التي باتت مخترقة، حيث نجد أن ليس هناك غياب للقانون في المناطق التي يجب أن يسود فيها القانون فقط، ومرد ذلك الى عدم وجود مساءلة ومحاسبة حقيقية، حيث القانون مغيب والردع شكلي...وفي الجانب العشائري الناس باتوا مدركين تاماً أن دور لجان الإصلاح والعشائر ليس أكثر من اطفاء حرائق وسياسة " الطبطبة " و "لم الطابق" و" فوتلي بفوتلك"، وهذه الظواهر منتشرة ومستفحلة إستفحال النار في الهشيم، ترجع الى سيادة ثقافة العنف في مجتمعاتنا والتي تغذيها قوى مختطفة للدين ...وإنتشار ثقافة الدروشة والسخافة والخزعبلات.
وما يحدث في محيطنا وواقعنا العربي، حيث القتل اليومي المغذّى بفكر متطرف وداعشي وداخلياً شدة حالة القمع والتنكيل التي يمارسها الإحتلال بحقنا تدفع بنا للتفريغ عن أزماتنا من خلال الإحتراب الداخلي والقبلي والإستقواء بالإحتلال وأعوانه ورموزه للتدخل بيننا وحل مشاكلنا، وكأن الإحتلال بات مكوناً طبيعياً وصاحب السلطة علينا الذي يجب أن نلجأ له لحل مشاكلنا. وكذلك واضح بأن ما نحتاجه هو إعادة صياغة مفاهيمنا ومناهج تعليمنا التربوية والتعليمية، وكذلك إستبعاد الكم الهائل من البرامج والندوات والمحاضرات التي تعبىء بثقافة الغيبيات والدروشة و«نحن طلاب موت وليس حياة». وقبل ذلك علينا أن نقر بأن مجتمعاتنا مأزومة وأزماتها آخذة بالتعمق إجتماعياً وفكرياً وثقافياً، حتى بتنا نعاني من أزمة هوية وإنتماء...وان جرى ويجري التعبير عن ذلك بشكل سطحي ومشوه.
منظومات الفكر والثقافة والوعي تنهار....ونشاهد ونرى بأن منظومة كاملة إعلامية، ثقافية، فكرية، دينية ومجتمعية تعمل على غسل الوعي وتغييب عقول الناس، وغرس ثقافة القتل والعشائرية والقبلية عندهم، كما ونشاهد أجيالاً شبه أمية في المدارس ...تتربى على سلوك لا معياري من الدجل والنفاق والكذب والغش والفهلوة والزعرنة وكل ما هو سلوك لا معياري ...
اليوم أكثر من أي وقت مضى بتنا بحاجة الى توحيد رؤيتنا ومفاهيمنا تجاه ما يحدث في مجتمعنا من إنتشار لثقافة العنف والإستقواء وممارسة سلوك البلطجة والزعرنة والتعدّي على حقوق وكرامات الناس...بتنا بحاجة الى أن نبحث عن حلول طويلة الأمد لمثل هذه الظواهر وحلول وقائية تمهد لمثل هذه الحلول..وعماد هذه الحلول التخلص من أمراض العشائرية والقبلية، ونبذ ومحاصرة كل الأفراد والجماعات التي تعمق الإنقسامات والعشائرية والقبلية في مجتمعاتنا، حيث من يتحمل المسؤولية المباشرة هنا، هي السلطة القائمة والقوى والأحزاب السياسية بمختلف مسمياتها.
بالضرورة يجب أن يكون هناك من يدق ناقوس الخطر، وبالمقابل يجب أن يكون هناك من يعلق الجرس، قبل ان تنتشر ظاهرة العنف والقتل والإحتراب العشائري والقبلي "الطوش"، إنتشار النار في الهشيم، وبما يصعب من السيطرة عليها ومحاصرتها، فالداء لدينا مشخص تماماً، ولكن ما يلزم هو الدواء، الدواء يجب أن يكون في وقته، وليس بعد فوات الآوان.
الحل يجب أن يكون جماعياً، وأن تشترك فيه كل الأطراف الأسر والعائلات، تربية البيت والأسرة والبيئة المحيطة، المدارس والمؤسسات التعليمية والتربوية، وكذلك المؤسسات الدينية من شيوخ ورجال دين ومطارنة وبطاركة، سلطة وقوى وطنية وسياسية ومؤسسات مجتمع مدني، وكذلك رجال الإصلاح والقيادات العشائرية.
الحل يحتاج الى شبكة واسعة من التدخلات والتكاتف والتعاون من كل الأطراف، حل يحتاج الى تشكيل خلايا أزمة وطوارىء، تتابع بشكل حثيث كل التطورات وتتواصل مع كل أصحاب العلاقة، وتتخذ قرارات حاسمة في المعالجات، بعيداً عن اسقاط الذات والجهوية وأصحاب النفوذ على المخرجات العلاجية لأن ذلك من شأنه أن يضعف من هيبة وصدقية الجهة التي تتخذ مثل هذه القرارات، ويجب أن تلقى قراراتها ومعالجاتها الدعم والإسناد، ليس فقط على المستوى الفوقي، بل يجب أن يتجند لها إطار جماهيري وشعبي واسع كحاضنة.
إذا كان الفساد يهز أركان دول ويهدمها، فإن تفشي مظاهر العنف والجريمة والتناحر الداخلي والصراع على السلطة، ينخر مبناها المجتمعي ويفككه، ويصبح المجتمع عرضة للتدمير الذاتي، وما يحصل في الوطن العربي، هو نتاج لمشاريع وسياسات إستعمارية، تريد هدم وتفكيك مجتمعاتنا خدمة لمشاريعها واهدافها.
بقلم/ راسم عبيدات