الأخوة الأعداء ...!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

الأخوة الأعداء، هو عنوان رواية الروائي اليوناني المبدع زانتازاكيتيوس، والتي تعد من أهم الأعمال الروائية التي قدمها المؤلف والتي قدم فيها الحرب الأهلية التي شهدتها اليونان وسقط فيها ضحايا بعشرات الألوف، تلك الحرب التي مثل طرفيها الأنصار أتباع الحزب الشيوعي اليوناني من جهة، والنظام الملكي والموالين له من المحافظين من الإقطاعيين والرأسماليين والمدعومين من الكنيسة من جهة ثانية ..

لقد تبادل الطرفان تهم التخوين والتكفير وقد بطشت قوات النظام بالبسطاء والفقراء الذين ساندوا قوات الأنصار وارتكبت المجازر في حقهم وحلت المجاعة والفقر لتعم السواد الأعظم من الناس، دون شفقة أو رحمة من قبل القوى الموجهة للصراع، والتي أشعلت تلك الحرب بين الطرفين.

لقد أبرزت الرواية (الأخوة الأعداء) أهوال تلك الحرب ووقودها من البسطاء والفقراء من قبل الطرفين المتصارعين .. والكل كان يدعي الغيرة على اليونان وعلى الوطن ووحدته وعلى اليونانيين ..!

هذه الرواية الإبداعية التي كشفت وسبرت أغوار تلك الحرب الأهلية المجنونة وإنقسام المجتمع وتدمير نسيجه الإجتماعي والثقافي والإقتصادي بينت أن أي من الفريقين لم يكن منتصرا، فهناك إما منتصر واحد هو (اليونان) أو هناك منهزم واحد أيضا هو (اليونان).. ففي الصراعات والحروب الأهلية دائماً لن يكون هناك منتصر، هناك مهزوم واحد هو الوطن الواحد، ويتبعه مهزوم واحد أيضاً هو الشعب أو المجتمع ..

فإن إستمرار عبثية تلك الحروب والصراعات الأهلية نتيجتها واحدة وهي هزيمة الدولة بكل مكوناتها من سلطة ووطن وشعب .. إلى أن يخرج فريق ثالث ويلزم طرفي أو أطراف الصراع والحرب الأهلية على وقف الإقتتال ووقف لغة التكفير والتخوين، وحقن الدماء والتسليم أن الجميع شركاء في الوطن وفي المجتمع وأن مصلحة الوطن والمجتمع تكمن في وقف الحرب والإصغاء إلى لغة العقل وتعطيل آلة الحرب والقتل والدمار وتفعيل آلية الحب والمؤاخاة والمساواة والمشاركة في صناعة الحياة والحفاظ على الأرواح والممتلكات .. وبالتالي الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، ووقف كل سياسات العداء بين الأخوة .. وإستعادة روح الأخوة والمحبة والمشاركة والمواطنة ..الخ.

هذه الرواية تنطبق ليس فقط على اليونان وما شهدته من حرب أهلية بل على كل دولة أو مجتمع تشهد مثل هذه الحروب .. وكم نحن بحاجة في وطننا العربي إلى أن نستفيد من العبرة والرسالة التي قدمتها هذه الرواية الإبداعية والعالمية، فلنتذكر ما حل بلبنان في الربع الأخير من القرن العشرين من حرب أهلية إستمرت خمسة عشر عاما كانت تدعي فيها أطراف الصراع الغيرة على الوطن .. أزهقت ما أزهقت من الأرواح وشردت ما شردت من المواطنين ودمرت البنيان المادي والنفسي للبنان ..

كذلك ما حصل في العديد من الدول العربية خلال السنوات التسع المنصرمة تحت ما سمي ظلما بالربيع العربي .. وما آلت إليه الأوضاع في هذه الدول وخصوصاً سوريا والعراق واليمن والسودان ..

وأما فلسطين التي هي على حد السيف دائماً لم تكن الإستثناء بالمطلق بل قدمت نموذجا من الصراع على النفوذ والتفرد والإقصاء والتكفير والتخوين .. والذي حال دون تحول هذا الصراع فيها إلى حرب أهلية، عاملين أساسيين الأول هو: خضوع فلسطين تحت الإحتلال والإغتصاب الصهيوني من جهة، والعامل الثاني هو: عقلانية التيار الوطني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة "فتح" التي تؤمن بتحريم الإقتتال الداخلي وإعتبارها الدم الفلسطيني خط أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي إعتبار رافضة أي تبرير لاستخدام العنف في مواجهة أي طرف داخلي وأن العنف فقط لا يمكن إستخدامه إلا في مواجهة العدو الرئيسي وهو الإحتلال، داعية إلى حل الخلافات الداخلية مهما علت بالحوار وبالحوار فقط دون غيره مهما تعقدت وتعددت أسباب الخلاف .. فقد حالت هذه الثقافة وهذا الإلتزام المبدئي من التيار الوطني دون وقوع الشعب الفلسطيني في أتون الحرب الأهلية وفوت الفرصة إلى غاية الآن على المتربصين وفي مقدمتهم الإحتلال الصهيوني من الوقوع في حرب أهلية تفضي إلى تحقيق أحلام المشروع الصهيوني وتقضي على أحلام وآماني وآمال الشعب الفلسطيني بإستعادة وطنه وهويته وإستقلاله وحريته وبناء دولته المستقلة، وحقنت دمائه وحافظت على نسيج المجتمع الفلسطيني الواحد والموحد، لكن ظهور تيار الإسلام السياسي في نهاية ثمانينات القرن الماضي ممثلاً في (حركتي حماس والجهاد) خلق حالة من الإنقسام الرؤيوي السياسي ما أتاح للعدو مباشرة ولقوى عديدة إقليمية ودولية للعب على إذكاء هذا الإنقسام بين التيار الوطني والتيار الإسلاموي الذي لم يترك صفة من صفات التفريط والتخوين والتعهير والتبخيس إلا وحاول إلصاقها بالتيار الوطني وقذفه بها مبخساً كافة نضالاته منذ النشأة والتأسيس وكذلك إنجازاته، ناسباً لنفسه الطهر والعفاف والإستقامة والإخلاص والتمسك والثبات، نافياً هذه الصفات عن التيار الوطني الذي سبقه في النضال والوجود وإنجاز الإنجازات التي قدم الشعب الفلسطيني التضحيات الجسام من أجل تحقيقها، رافضاً أن يكون شريكاً أو مكملا للتيار الوطني السباق في تأجيج الثورة والكفاح والنضال من أجل إسترداد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ...إلخ.

وقد تعمق الخلاف السياسي بين التيارين واشتد أواره بعد أن شاركت حركة حماس في الإنتخابات التشريعية في 25 يناير 2006م وفوزها على التيار الوطني الذي سلم لها بالنتيجة وكلفت بتشكيل الحكومة .. وهي ترفض كافة الأسس التي قامت على أساسها السلطة الفلسطينية كنتيجة لإتفاق أوسلو بين م.ت.ف والعدو الصهيوني .. والذي رفضه التيار الإسلاموي وعمل بشكل ممنهج لإفشاله والقضاء عليه لإعتباره يمثل تفريطا بالحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين ويمثل خيانة واضحة من قبل التيار الوطني للقضية الفلسطينية بكل أبعادها الوطنية والقومية والدينية ..!!!

وهنا بدأت المعضلة تعلو على السطح، والتناقض بين الفكر والممارسة لدى التيار الإسلاموي الذي يرفض كافة الحلول السياسية للقضية الفلسطينية ولكنه يزاحم وينافس على الإستحواذ على المنافع التي تحققت أو قد تتحقق من هذه الحلول ..! وهنا يتغلب عليها فكر الإستحواذ والإستفراد والإقصاء للآخرين والذي ترجم بالإنقلاب الدموي الذي أقدمت عليه ميليشياته يوم 14 / 6 / 2007م بالإنقضاض على مؤسسات السلطة ومطاردة كافة العناصر المؤسسة لها بحجة التمكين في الحكم بعدما فازت بتلك الإنتخابات المشؤومة التي ما كان يجب أن تتم، والتي تمت تحت ضغط دولي أمريكي واضح لتأكيد هذه الثنائية السياسية المتعارضة في الكيانية السياسية الفلسطينية بغرض إضعاف م.ت.ف والتهرب من الإستحقاقات التي كانت تفرضها الإتفاقات الموقعة وما تهدف إليه عملية السلام من إنهاء للإحتلال الإسرائيلي للأراض الفلسطينية المحتلة عام 1967م وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

هكذا بدأ الصراع الداخلي يأخذ منحاً جديداً ومعضلة كأداء أمام النضال الوطني الفلسطيني بسبب ما خلفه هذا الإنقلاب من إنقسام سياسي رؤيوي عميق كان المستفيد الأول منه الكيان الصهيوني والقوى الإقليمية والدولية المستثمرة في الصراع العربي الإسرائيلي .. وتمضي الأيام والسنوات حتى بلغت أحد عشر عاماً ونيف على هذا الإنقسام والذي شهد الحوار تلو الحوار والوساطة تلو الوساطة والإتفاق تلو الإتفاق من أجل إنهاء هذا الإنقلاب وما نتج عنه من إنقسام، ولكنها جميعها باءت بالفشل بسبب ثقافة التخوين والتكفير والطهر وما يستند إليها من فكر الإستحواذ والإقصاء والتفرد بالإمساك بالقضية الفلسطينية رغم كافة المناورات والسياسات المتناقضة التي يعبر عنها التيار الإسلاموي بين الفينة والأخرى والظهور بمظهر المظلومية ومظهر المقاومة الشريفة في نفس الوقت الذي لم يعد خافياً حجم التناقض بين تلك الشعارات الثورية لتضليل السذج والدهماء .. وبين الممارسات السياسية والتحالف مع قوى إقليمية ترفض خيارات التيار الوطني وتتآمر عليها بالتنسيق الكامل مع العدو الصهيوني الذي بات يظهر حرصه على إستمرار هذا الإنقسام السياسي والجغرافي الذي أحدثه إنقلاب حركة حماس وإستمرار تفردها في حكم قطاع غزة كي يجهز على أحلام الشعب الفلسطيني بقيادة التيار الوطني في إنهاء الإحتلال للأراضي المحتلة عام 1967م وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس..، هنا تبرز لدينا أهمية رواية (الأخوة الأعداء) وأخذ العبرة وتمثل الرسالة الأخلاقية والسياسية التي عبرت عنها وهي إستمرار هذا العداء بين الأخوة وبين التيارين الإسلاموي والوطني هناك منتصر واحد هو العدو المتربص بالكل الفلسطيني على إختلاف ألوانه السياسية والإجتماعية والجغرافية، وهنا مهزوم واحد هو الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بكل أبعادها القومية والدينية والإنسانية، فهل يدرك الطرفان هذه الحقيقة الصادمة أم سيستمرا في تجاهلها، لقد أدرك ذلك التيار الوطني لهذه الحقيقة مبكراً وقدم من جانبه كل ما يلزم من أجل إنهاء هذه الحالة الشاذة، لكن تيار الإسلام السياسي (حركة حماس) وحلفاؤها مازالوا يغضون الطرف عنها ويعملوا على تكريس هذا الخلاف ومنحه أبعاداً مختلفة تحت سطوة شهوة السلطة والإستفراد والإقصاء وفكر وثقافة التكفير والتخوين بغض النظر عن كافة النتائج الكارثية التي خلفها هذا الفكر وما نتج عنه من سياسات تدميرية لكافة الإنجازات الوطنية التي حققها الشعب الفلسطيني من خلال ثورته المعاصرة.

آن الأوان أن ينتهي هذا الموضوع الشاذ وهذا الصراع المدمر للقضية الفلسطينية بكل أبعادها وأن يلتزم هذا التيار بما تم من إتفاقات بالرعاية العربية وخصوصا منها المصرية والإقلاع عن سياسات العهر القائمة على فكر التكفير والتخوين وما بني عليها من سياسات الإستقواء والإستفراد والإقصاء للكل الوطني .. إن التاريخ لن يرحم والشعوب تمهل ولا تهمل، ولا يمكن لقوة البطش أن تحول دون أن يقول الشعب كلمته وأن ينفجر في وجهه الظلم وقوى الظلام التي قادته إلى ما هو فيه من ويل وثبور. فأعتبروا يا أولي الألباب.

E-mail: pcommety @ hotmail.com

الرياض 10/01/2019م الموافق 04/05/1440هـ

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس