كثيرة هي المنعطفات التاريخية التي مرت بها الثورة الفلسطينية المنتهية ولايتها بدءا من الانطلاقة المجيدة عام 1965 والتي شكلت منعطفا جديدا في تاريخ الشعب الفلسطيني وهزيمة عام 1967 والتي جاءت كرافعة قدمت الثورة الفلسطينية في بدايتها وبعد الهزيمة الكارثية للنظام الرسمي العربي كبديل لذلك النظام برمته وهو ما جعل البعض في الثورة أحيانا تراوده مثل هذه النرجسية المفرطة والتي قادت في أبشع صورها إلى الصدام مع النظام في الأردن ولبنان وسوريا ومصر في الكثير من الحالات والأحداث لكن مواصلة الخطاب الثوري المترافق مع الفعل على الأرض أبقى تلك الحالة الثورية وقيمها هي الرافعة الموحدة لقوى الشعب وكامل مكوناته وظلت القوى البعيدة عن الثورة غير قادرة على اختراق صفوفها أو العبث بتلك الوحدة ولذا تجاذبت قوى الثورة وفصائلها خلافات وصراعات كثيرة وصلت حد الاقتتال والدم في بلاد الشتات ومع المستضيفين كما حدث في الأردن ولبنان بالتحديد إلا أن الأمور كانت تذوب وتعود إلى حالها ويتنازل الجميع أمام صوت الثورة واستحقاقات طريقها وصلابة ورسوخ قيمها وظل الحال على ذلك حتى بعد دخول الفصائل الإسلامية وحركة حماس تحديدا إلى ساحة الصراع المباشر مع الاحتلال أثناء الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987 والتي شاركت سائر الفصائل في الغالبية العظمى من الحالات الكفاح ضد العدو المحتل ودخلت في القاموس السياسي الفلسطيني تسمية القوى الوطنية والإسلامية والتي نسقت مع بعضها ورغم أن حركة حماس سعت دائما للتمايز بطرق وأشكال مختلفة عن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وكان ابرز تلك المحاولات التعارض في تحديد يوم انطلاقة الانتفاضة هل هو اليوم الثامن أو التاسع من كانون الأول وكذا رفضها المتواصل للتواجد ضمن الأطر الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلا أن تلك الصراعات والاختلافات ظلت اضعف من أن تشكل خرقا تدميريا للعلاقة النضالية المتواصلة والمتنامية ضد الاحتلال على الأرض وفي الميدان ولم تسعى حماس أبدا للتحدث عن الشرعية أو انعدامها لمنظمة التحرير وقيادتها.
ظل الوئام الوطني والثوري المقدس قائما بين سائر مكونات الشعب والثورة إلى أن جاءت اتفاقيات أوسلو والتي شكلت هزة عنيفة في تركيبة وقيم ورؤى الثورة وعقيدتها لدى الكثير من أبنائها ومكوناتها وفي أوساط الشعب ومكوناته أيضا وهو ما فتح الباب على مصراعيه لتأجيج الصراع الداخلي وظهور لغة دخيلة على الخطاب الوطني الفلسطيني تمثلت في التخوين والتكفير وهو ما ظل غائبا عن الثقافة الوطنية الفلسطينية حتى أوسلو وان وجد فلقد ظل حييا وخجلا ومستترا في كل حالاته وكانت الحالة الثورية المتواصلة كفيلة بمنع تلك اللغة من أن تطل برأسها في العلن وتترسخ وفي جميع الحالات كان أصحابها يتراجعون عنها عند أول حالة مواجهة بين الثورة والاحتلال.
أوسلو التي سقطت أو أسقطت على الشعب وهو في حالة تغييب تام نقلت الثورة من حالة المواجهة مع الاحتلال كعدو وطني تنبغي مقاومته كمهمة أولى ورئيسية ليس قبلها مهمة إلى حالة السلطة ولو وهما وانخرط الجميع بلا استثناء في الثورة والشعب داخل منظمة التحرير وخارجها في حالة نقاش محتدم حول تقاسم السلطة في قواعدها قبل أن نصل إلى قمتها وصار الجميع يسعى للحصول على بعض المكاسب ولو في التوظيف والمنافع اليومية لأعضائه وبات من يشارك في السلطة محسودا ومن لم يشارك مطالبا بتحقيق مطالب حياتية ويومية لأعضائه ومناصريه وظهرت سلطة أوسلو بمظهر الكعكة التي يسعى الجميع إلى تقاسمها بشكل أو بآخر ولم تترسخ تلك الحالة بصورتها الأبشع إلا بعد انخراط الجميع في الانتخابات التشريعية الثانية والفوز الساحق لحركة حماس والذي قادها إلى قبول الانتقال من الثورة إلى السلطة وتساوت في الحالة مع باقي مكونات الثورة الفلسطينية حتى تلك القوى التي حاولت أن تحرص على نقاء خطابها ورفضها المتواصل للمشاركة في السلطة الرسمية كحالة الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي.
الجريمة الأولى التي ارتكبت بحق الثورة الفلسطينية كانت بنقلها ومكوناتها بالكامل إلى لعب دور السلطة دون إحداث أي تغيير يذكر في تركيبتها ودون الإبقاء على أهدافها حتى ولا على برامجها عمليا وصار التفريق بين الثورة والسلطة أمر غير ممكن ولم يعد هناك أية هوامش فاصلة بين تكوين السلطة وتكوين الثورة وظهرت أنماط عمل جديدة كتعبير القيادة الفلسطينية والذي جاء خليط مما هب ودب من لجنة تنفيذية ووزراء وقادة وشخصيات أو بمن حضر ليصبح التغييب للثورة هو الأساس لصالح السلطة.
الجريمة الثانية كانت في الإصرار على الانتخابات التشريعية والتي جرى تصويرها على أنها انتخابات الانتقال إلى الدولة وتثبيتها على الأرض وتحولت شعارات التحرير والحرية للانتفاضة الثانية إلى شعارات تتحدث عن بناء الدولة ومؤسساتها بعد أن انتقلت تلك السلطة شرعيا من يد فتح ومنظمة التحرير إلى يد حركة حماس بلا منازع وهو ما جعل السلطوي ينتصر على الثوري لدى مكونات منظمة التحرير وفي المقدمة فتح وفتح شهية حركة حماس للحكم بنفس الدرجة والمقدار معتمدة على الشرعية التي استمدتها من صندوق الاقتراع الذي باهت السلطة فيه العالم لنزاهته.
الجريمة الثالثة كانت في سعي الطرفين كل من جهته للاحتفاظ بالسلطة على حساب الثورة وهو ما جعل الثورة تغيب كليا عن أذهان الجميع في الشعب والمؤسسات وبات الصراع على السلطة هو الهاجس الأخطر والاهم في عرف الجميع بلا استثناء وتنامت خطورة هذا الصراع في الوضع الذي آلت إليه الثورة بعد تحويلها رسميا إلى سلطة رغم الحفاظ أحيانا على الخطاب الثوري بشكل أو بآخر.
الجريمة الرابعة جاءت من لحظة القبول بالإمساك بالسلطة حيث أمكن إلى أن وصل الأمر بالطرفين إلى حالة اقتتال عنيف على السلطة قادت إلى حالة الانقسام العميق الذي لا زال يتعمق يوما بعد يوم ويتواصل بما يوحي أن لا نهاية له.
الجريمة الخامسة والمتواصلة وبالتالي تلك التي قد لا تكون الأخيرة هي الإصرار المطلق من الطرفين على مواصلة حالة الانقسام وانعدام قدرتهم أو رغبتهم في التوصل إلى حالة تعود بنا إلى أيام الوحدة والاتفاق مما يسهل علينا كثورة وشعب إلى معاودة الالتفات إلى الاحتلال واستعادة مكانة الثورة ودورها بعيدا عن السلطة ومهماتها.
الجريمة الأخطر والتي يتمنى كل الشعب الفلسطيني أن لا يصل إليها وهي الإمعان في الانقسام حد تحقيق أحلام الأعداء بفصل غزة عن الضفة كليا وتحويلها إلى دولة أمر واقع والاستفراد بالضفة حد تقسيمها إلى إدارات حكم ذاتي ليس بعيدا أن تصبح متنازعة ومختلفة وعندها سيكون التذكير بالاختلافات الصغيرة هنا وهناك في مناطق ومحافظات الضفة لا معنى له بعد أن يصبح متأخرا عن موعده وعلينا كشعب أن ندرك أن تجربة فصل الضفة عن غزة هي مصلحة احتلالية عليا يتحدث قادة وصناع القرار في دولة الاحتلال ومخططيهم الاستراتيجيين بأشكال مختلفة عن تكرار التجربة في الضفة بشكل أكثر بذاءة من تلك التي مثلها الانقسام في الضفة وغزة.
اتفاقيات أوسلو نقلت الثورة الفلسطينية إلى مواقع السلطة دون أن تنهي مهامها وأوجدت خلطا تغييبيا للثورة لصالح السلطة وباتت مهام السلطة هي الأساس وجرى التغييب العملي لمهام الثورة وان بقي الخطاب اللفظي على حاله في الكثير من الأحيان ومع ذلك ظل التعارض بين منظمة التحرير وحماس وحلفائها قائما بقوة بسبب الإصرار على اعتبار المقاومة الطريق الوحيد للتعامل مع العدو إلى أن جاءت نتائج الانتخابات لتشريعية الثانية وانتقال حماس بدورها للسلطة وصولا إلى الانقسام الذي اشغل حماس بقضايا السلطة في غزة وجعل الشعب ينظر للطرفين بنفس المستوى فكلاهما بات يسعى للسلطة على حساب الثورة وهو ما ترك الباب مشرعا للاحتلال ليملأ فراغا تركه المنشغلين في الصراع على السلطة في غزة والضفة وبات الاحتلال يتدخل في أدق شؤون حياتنا وسمحت له هذه الحال بالظهور بمظهر المهتم بمعاناة شعبنا فهو يطالب رام الله برفع العقوبات عن غزة ويبث دعايته المسمومة عن خوفه وبكائه على أهل غزة ومعاناتهم ومن يراقب صفحات التواصل الاجتماعي ويرى ما تقوم به صفحة المنسق " مدير ادراة جيش الاحتلال في الضفة الغربية " وحجم التفاعل معها وعدد المعجبين الذي وصل الى 513000 معجب حتى اللحظة ويرى حجم المعجبين بصفحات قوى الثورة ايا كان دورها يرى حجم المصيبة التي نعيشها.
نحن اليوم أمام سلطة بلا سلطة وثورة بلا ثورة تساوى بها الجميع وانشغل بها الجميع فلا احد استطاع الحفاظ على الثورة ولا احد أنجز سلطة وهو ما فعلته بنا أوسلو أولا ثم مشاركة حماس في الحكم ثانيا وبالتالي ما وصلنا إليه من انقسام اوجد سلطتين متنازعتين وغيب كليا النزاع بين السلطة والمقاومة الذي لو ظل قائما لخدم كليا قضايا الشعب والثورة ولأبقى على القضية الفلسطينية وثورتها حية ومتواصلة وبعكس أحلام كل الشعب وقواه فان ما يجري على الأرض اليوم هو صراع حاد فلسطيني فلسطيني ونقاش وتفاوض مع العدو الوطني تارة لصالح المال وأخرى لصالح القضايا اليومية للناس وبات شعار كنس الاحتلال غائبا أمام شعارات تهدئة مقابل تهدئة ودخلت بعض الشعارات والاتهامات الغريبة باب الحياة السياسية الفلسطينية والصراع الدائر بين القوى ولم يعد اتهام التخوين والتكفير حكرا على احد بل بات يطال الجميع من الجميع ومن هاجم أوسلو أمس وجد من يهاجمه اليوم بشعارات الدولار والسولار وإذا تواصل الحال فقد لا نجد على الأرض إلا الخراب الذي يسعى إليه الاحتلال فلا إمكانية أبدا للتعايش بين ثورة لم تنجز مهامها وسلطة يتصارع عليها " الثوار " قبل أن تكون حقيقية على ارض حرة لدولة مستقلة موحدة كاملة السيادة وقد يصح بنا المثل القائل لا مصيف في الأغوار ولا مشتى في رام الله فلا ثورة أبقينا ولا سلطة أقمنا.
بقلم/ عدنان الصباح