تؤكد وتثبت تجارب الاعوام العشرة الماضية التي اعقبت حدوث الانقسام البغيض، ان التوافقات الوطنية تأتي في كل الاحوال والظروف بأفضل النتائج واحسنها لجميع القوى والفصائل والكيانات والمكونات، وان التدخلات الخارجية كانت تجلب دائما المشاكل والازمات والمأسي والكوارث ان عاجلا ام اجلا. ولسنا بحاجة الى ان نتوقف طويلا عند صفحات ومحطات التأريخ الفلسطيني المعاصر حتى نتيقن مما ذهبنا اليه لان كل الامور واضحة وجلية بما فيه الكفاية، فاليوم واحدة من مقومات وعناصر التوافقات الوطنية كثيرة وكبيرة، وما يجمع بين الشركاء في الوطن الواحد اكثر مما يفرقهم، والتنوع الفسيفسائي للمجتمع الفلسطيني قوميا ودينيا ومذهبيا وعشائريا، يمثل نقطة قوة اكثر منه نقطة ضعف، واذا كانت قد حدثت مشاكل وازمات بين البعض من مكونات المجتمع الفلسطيني الواحد في الماضي البعيد او بالامس القريب، فليس لان هناك خللا في منظومة العلاقات والروابط الاجتماعية والسياسية والثقافية بينها، وانما لان قوى واطرافا خارجية دخلت على الخط وارادت ان تفرض خياراتها وتمرر اجنداتها وتملي اراداتها، وربما لا يغيب عن بال الكثيرين من ابناء الشعب الفلسطيني مبدأ "فرق تسد" الذي عملت به قوى خارجية دولية في دول مختلفة من بينها الوطن الفلسطيني، وكانت له اثارا ونتائج سلبية ما زال جزء منها ماثل لنا بمظاهر واساليب وسياقات شتى.
واذا كنا في هذه المرحلة الحرجة والحساسة امام خيارين، الاول، الجلوس مع بعضنا البعض لنحدد مساراتنا الصحيحة ونضع النقاط على الحروف، والثاني طرق ابواب الاخرين ليحلوا لنا مشاكلنا، فالاولى بنا ان نلجأ الى الخيار الاول مع ما فيه من صعوبات ومشاق، لانها بالتأكيد لن تكون اكثر من تبعات واستحقاقات الخيار الثاني.
وفي خضم اوضاع وظروف حساسة وخطيرة يمر بها وطننا وشعبنا ، لابد ان نذكر ونؤكد مرة اخرى انه انطلاقا من المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق الفصائل والاحزاب والقوى والتيارات والشخصيات الوطنية والإسلامية والشخصيات المجتمعية والسياسية، وتقديرا للمصالح الوطنية العليا لشعبنا، ينبغي ان يضطلع من يعنيهم الامر بدورهم، ويتخذون الخطوات المناسبة والصحيحة، التي من شأنها تعزيز اللحمة الوطنية، واخراج العملية السياسية من عنق الزجاجة، وتجنيبها منعطفات خطيرة للغاية، وتفويت الفرصة على المتربصين بالوطن، والساعين الى تعطيل وعرقلة مسيرة التقدم نحو الامام.
إن تغليب المصالح الوطنية، ونبذ الخلافات والنزعات المصلحية الفئوية والضيقة، هو مفتاح النجاح الحقيقي، والمكسب الكبير للجميع، وليس لهذا الطرف السياسي او المكون الاجتماعي دون الاخر، ولاشك ان مبدأ التوافقات السياسية الحقيقية بين مختلف القوى والكتل والكيانات السياسية يبقى هو المبدأ الانجع والخيار الافضل، لانه يمكن ان يساهم الى حد كبير في تخفيف حدة الاحتقانات، التي يمكن ان تنعكس سلبا على الشارع الفلسطيني، فلولا التوافقات السياسية لما ترسخت اسس وركائز العملية السياسية، ولما تخطى المشروع الوطني والسياسي الفلسطيني عقبات كأداء وتجاوز تحديات كبرى داخلية وخارجية، وكانت حركة فتح ومازالت واضحه الى اقصى الحدود مع ابناء شعبها، ومع شركائها السياسيين في طرح رؤاها ومتبنياتها ومواقفها حيال مختلف القضايا، لاسيما الجوهرية والمصيرية منها، واذا كانت لديها اليوم ملاحظات معينة بشأن هذه القضية او تلك فأنها لا تراد منها العرقلة والتعويق، بل تراد منها تصحيح المسارات الخاطئة ومعالجة الاخطاء والسلبيات، والحؤول دون تكرار حصولها في المستقبل.
إن ايمان حركة فتح الراسخ بمبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية، والتوافقات السياسية بين مختلف القوى والمكونات السياسية، لاسيما الاساسية منها يعد من ثوابتها الوطنية التي لا تحتمل النقاش، ولا تقبل الجدل في كل الظروف والاحوال، فإننا اليوم احوج ما نكون الى ان نشاهد الجميع وهم متفقون ومتوافقون على ما يصب في مصلحة الوطن وابنائه، وعلى ما يريدونه وما يجنبه ويجنبهم الخيارات السيئة والاستحقاقات الخطيرة، ويدفعهم للعودة الى الوراء.
ان اسهل الطرق لضمان ذلك هو بلورة مشروع وطني حقيقي لإعادة بناء الوطن ومؤسسات الدولة يتضمن اهداف وطنية مرحلية قابلة للتحقيق، وآليات وبرامج كفيلة بتحقيقها وفقا للإمكانيات المتاحة، وتوقيتات محددة، ثم الهدف الاشمل وهو بناء الدولة.
ان وحدة الهدف هي المفتاح الحقيقي لمعالجة الكثير من الإشكاليات التي نواجهها اليوم، وان هذه المعالجة لا يمكن لها ان تمضي باتجاه تحقيق أهدافها إلاّ حينما تجتمع القوى والفصائل الأساسية والكبيرة من مكونات شعبنا لتضع مصالح الوطن الفلسطيني في أولى اهتماماتها وذلك لضمان عقد شراكة حقيقية بين كل الأطراف المعنية بقيادة الوطن، ولا بد لذلك الاجتماع ان يعمل ـ كما اسلفنا ـ على توسيع قاعدة فرص المشاركة بجميع أطياف شعبنا وقواهم الخيرة من اجل صياغة حلول واقعية ضمن المبادئ والأسس التي اشرنا اليها.
ومن المهم ان نؤكد على الإرادة الفلسطينية الوطنية الحرة في إيجاد المناخات الإصلاحية التي نحتاج اليها جميعاً، وهنا لابد من تأكيد ترحيبنا ايضاً بكل الجهود العربية والإقليمية والدولية ولاسيما جهود الدول العربية الشقيقة وعلى رأسهم مصر والأردن وقطر والسعودية، وجهود الدول الإسلامية العزيزة وعلى رأسهم تركيا، وجهود الدول الصديقة وعلى رأسهم روسيا وسويسرا وفرنسا، على ان تأتي هذه الجهود منسجمة مع هذه الرؤية ومع هذه المبادئ، ومحافظة على هذه الأوليات من اجل تحقيق الاستقرار السياسي والأمني في الوطن الفلسطيني ومن اجل دفع عملية البناء وإعادة الاعمار الى الأمام وفي كل البقاع والمناطق الفلسطينية، مع توفير الخدمات للمواطنين كي يعود وطننا لموقعه الطبيعي في المنطقة والعالم.
وفي جميع الاحوال، ما يحتاجه شعبنا اليوم هو الخروج من هذا النفق في الاتجاه السليم، فالكل يترقب، والكل يضع يده على قلبه، والكل يريد الاصلاح، لكن تحقيق هذا المطلب ينبغي أن لا يدخل البلاد في دوامة من المخاطر والصراعات والفوضى، لأن شعبنا لم يعود قادر على تحمّل المزيد من الخراب، حيث ينبغي أن تتم معالجة الأمر بحالة انضباط عالية، على أن يبقى الاصلاح والقضاء على الإنقسام هدفا أساسيا للجميع.
الخلاصة نحتاج أن يسير الوطن الفلسطيني في المسار السليم، وهذا محكوم بسلوك الكل الفلسطيني، وحرصه على سلامة هذا الوطن، وأهمية تحقيق الاصلاح، والحرص على مطالبات الشعب والجماهير، مع الابتعاد عن اساليب العنف بكل اشكاله اللفظية والمادية، واعتماد الحوار البنّاء ضمن الأطر القانونية، كون الوطن غير قادر على تحمل اعباء جديدة من الفوضى والخراب، فمسؤولية الطبقة السياسية وكبار القوم تستدعي الخروج بفلسطين من هذا الوضع الشائك والمعقد الى بر السلام بأقل ما يمكن من الخسائر.
بقلم/ رامي الغف*
* إعلامي وباحث سياسي