4 فبراير 1942.. التابوهات والحقيقة

بقلم: علاء الدين حمدى شوَّالى

- ديسمبر 1941.. الفوضى تجتاح الشارع المصرى .. الجوعى يهاجمون المخابز .. روميل يتقدم الى العلمين .. ـ يناير 1942 .. المظاهرات تندلع للترحيب بروميل واﻷلمان ..
ـ الإثنين 2 فبراير 1942.. وزارة حسين سرى باشا، الثانية، تتقدم بإستقالتها .. اﻻنجليز لا يثقون فى الملك فاروق الذى تنحاز مشاعره الى الألمان .. يعلمون كراهيته لهم .. القلق ينتابهم ، فمصر هى جبهتهم الداخلية فى مواجهة جيوش روميل ويجب تأمينها حتى ﻻ يقع الجيش اﻻنجليزى بين فكى الكماشة، روميل من اﻷمام والمصريون من الخلف، لذلك يجب تأمينها بحكومة يطمئن الإنجليز الى قدرتها على السيطرة .. الحل عند النحاس، كما يرى اﻻنجليز، فمجيئه سيكون للشعب بمثابة اﻷب الذى يكف الطفل عن البكاء عند دخوله المنزل واثقا انه سيتولى حل كل المشاكل.
- الثلاثاء 3 فبراير 1942 .. بدأ اﻻنحليز العمل فورا، مايلز ﻻمسون، السفير البريطانى، يطلب من الملك فاروق تكليف وزارة يمكنها تفعيل نصوص معاهدة 36 ويحدد اسم النحاس باشا تحديداً رغم أن الوفد كان يشكل الأقلية البرلمانية حسب انتخابات 1938 المشكوك فيها .. الملك يستدعى رؤساء اﻷحزاب للتشاور .. النحاس خارج القاهرة مع حرمه فى رحلة نيلية للإستجمام فى الجنوب .. سراج الدين ومكرم عبيد يحاولان إقناعه بمقابلة الملك .. النحاس يرفض .. يستعينان عليه بحرمه زينب هانم الوكيل ، حسب رواية فؤاد سراج الدين، .. الهانم تضغط .. يتحجج النحاس بأن القطار اﻷخير الى القاهرة قد غادر بالفعل .. سراج الدين يؤكد انتظار القطار تنفيذا ﻷتفاقه مع مدير قنا "محافظ قنا" .. النحاس تحت الحصار .. يرضخ .. يسافر بصحبة مكرم وحده الى القاهرة .. يلتقى الملك .. يجرى تقييماً سريعاً للموقف، إما القبول وإما عزل الإنجليز للملك وقمع الشعب .. النحاس يقبل المبدأ ويرفض تشكيل وزارة إئتلافية بإتفاق "الوسيط" بينه وبين ﻻمبسون حسب الوثائق البريطانية، * تؤكد كل المصادر، وفى مقدمتها مذكرات السفير البريطانى والدكتور محمد صلاح الدين بك، وزير الخارجية فى حكومة الوفد الأخيرة، ومحمود سليمان غنام باشا، وزير التجارة والصناعة فى حكومتى النحاس السادسة والسابعة، أن الوسيط كان أمين عثمان صاحب نظرية الزواج الكاثوليكى بين مصر وبريطانيا، والذى كان وفدىّ المصلحة لا العقيدة "كالنموذج المعاصر على أغلبه" إبتعد عن الوفد وهو خارج الوزارة ثم عاد يحوم حوله عندما علم من أصدقائه الإنجليز أنهم سيطلبون تكليف الملك للنحاس بتأليف الوزارة ..
الأخطر هو ما ذكره السفير لامبسون، لورد كيلرن فيما بعد، فى مذكراته عن أمين عثمان الذى إتضح أنه المصرى الوحيد الذى كان يعلم بما سيحدث، فنجده كتب:
الثلاثاء 3 فبراير (طلب أمين عثمان مقابلتي، شرحت له تفاصيل الموقف، قال لي بصراحة أنه حضر لمقابلتى الان نيابة عن النحاس وبمجرد أن أكد لى أن النحاس مستعد تماما أن يقوم بدوره لو أننى ناصرته، وقلت له أننى أعتقد أنه يتعين على النحاس أن يعرف بعض النقاط التى أثارتها وزارة الخارجية معى، ولكنى قلت له أعتقد أن النحاس يجب أن يدرك وجهات نظر وزارة الخارجية البريطانية والتى وردت بكل صراحة فى تقرير لنا، وبدون شك فإنى سوف أثير مع النحاس هذه النقاط بشكل مباشر فيما بعد إذا ما ألف النحاس الوزارة بالشكل الذى أريده، وكان أمين عثمان يتوقع أن النحاس لن يثير أية مشاكل تجاه أى من هذه النقاط
وسألني أمين عثمان عن الإتجاه الذى أنصح النحاس به قبل أن أهم بمقابلة الملك بعد الظهر ؟
قلت له أن على النحاس بالطبع أن يبدى رأيه لكن رأيى القاطع فى هذا الشأن أن يرفض النحاس أى عروض بضرورة تشكيل حكومة إنتقالية فهى بمثابة مناورة من القصر لتلفيق الأمور والإستمرار فى حياكة الدسائس
قال أمين أنه سيقابل النحاس ليرى ماذا يمكن أن يقول له النحاس)
ثم يسترسل لامبسون (وقضيت وقتا هادئاً بقية الصباح حتى الساعة 2.15 بعد الظهر عندما حضر أمين عثمان حاملاً رسالة من النحاس، مفادها إن النحاس مستعد لقبول حكومة محايدة إذا كنت أنا أريد ذلك، وحكومة ائتلافية إذا كانت تلك نصيحتى، لكنه يريد تذكيري بأن الحكومات الائتلافية لا تنجح.
قلت لأمين أبلغ النحاس أن عليه أن يقول للملك أن الموقف في غاية السوء، وأنه لا يستطيع الثقة في ولاء الأحزاب الأخرى التي يمكن أن تشارك في حكومة إئتلافية إذا أصر الملك على ذلك، وأن الحل الوحيد لتفادى المشكلات والمؤامرات هو تأليف وزارة وفدية خالصة حتى تستطيع أن تتحمل المسؤولية) ـ مذكرات لامبسون، أو مذكرات لورد كيلرن 1934-1946 الجزء الثاني لـ تريفور إيفانز- ترجمة دكتور عبد الرؤوف احمد عمرو، الهيئة المصرية للكتاب.
وقد إستغنيت عن الكثير مما قاله لامبسون فيها لضيق المجال، والتى إن صدقت فربما تفسر سر مكافئة النحاس لأمين عثمان بطلبه من الملك فى 15 فبراير 1942 إصدار مرسوم بتعيينه رئيسا لديوان المحاسبة، ثم كلفه النحاس وزيرا للمالية فى يونيو 1943 فى وزارته السادسة !!
كذلك تدفعنى الى سؤالين هامين لم أجد عنهما إجابة ..
الأول: هل كان مكرم عبيد وسراج الدين على علم بسعى أمين عثمان بين النحاس ولامبسون عندما ضغطا على النحاس، كما بدا لنا من رواية سراج الدين، لقطع رحلته الجنوبية النيلية والعودة الى القاهرة لمقابلة الملك ؟
الثانى: هل كانت رحلة النحاس الى الجنوب متعمدة فى ذلك التوقيت حتى يخرج أمام الرأى العام من دائرة شبهة الإتفاق مع الإنجليز ؟
وعودة الى سرد الأحداث ..
ـ الثلاثاء 3 فبراير 1942.. فاروق يرفض تكليف وزارة وفدية خالصة، مضايقة للإنجليز من ناحية، وتحسباً لإنتصار قوات المحور فصعوبة التخلص من النحاس بعدها من ناحية أخرى ..
ـ الأربعاء 4 فبراير 1942 صباحاً .. اﻷزمة تحتد .. ﻻمبسون يرسل إنذاراً للملك نصه (إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دُعِىَ لتأليف الوزارة فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث) .. فاروق يرفض الإنذار ويستنكر التدخل اﻹنحليزى فى شئون مصر لكنه يدعو السياسيين للإجتماع فى الرابعة مساء نفس اليوم 4 فبراير فى سراى عابدين لتقييم الموقف
بدأ فاروق الإجتماع قائلاً ( إننى مستعد فيما يتعلق بشخصى أن أضحى بكل شئ، فلا شئ يعنينى غير مصلحة مصر وكرامتها) ثم غادر القاعة تاركا السياسيين لإتخاذ الموقف ..
النحاس يعلن فى الإجتماع اعتراضه على إقحام اسمه فى الإنذار البريطانى لكنه يؤكد قبوله تأليف الوزارة إنقاذاً للموقف إذا طلب منه الملك ذلك .. احمد ماهر يناشد النحاس أن يرفض تأليف الوزارة .. الأراء تتالى .. النحاس يرفض إلا تأليف وزارة وفدية خالصة شريطة أن يطلب منه الملك ذلك .. السادسة مساء تقترب .. يتنبه المجتمعون أن مهلة الإنذار البريطانى أوشكت على النفاد بينما لا فائدة من النقاش مع تشبث النحاس برأيه،
* بمعنى، وهى نقطة شديدة الأهمية، أن الخلاف بينهم وبين النحاس كان حول رغبتهم المشاركة فى وزارة إئتلافية برئاسة النحاس وليس على رفض مبدأ الوزارة على أسنة رماح الإنجليز حسب ما قال احمد ماهر باشا كما سيأتى فى السطور القادمة
وإزاء تعنت النحاس، أنهى السياسيون إجتماعهم برد مكتوب جاء فيه (أن فى توجيه التبليغ البريطانى إعتداء على إستقلال البلاد ويخل بأحكام المعاهدة وأن جلالة الملك لا يمكنه قبول الإنذار وأنهم يرون تشكيل حكومة من كل الأحزاب بما فيها الوفد)، ووقع عليه النحاس ضمن من وقعوا ثم إنصرف من سراى عابدين مؤقتاً .. يتسلمه احمد حسنين باشا، رئيس الديوان، لتقديمه للسفارة البريطانية كرد للزعماء السياسيين طالبا منهم الإنتظار ريثما يعود ..
ـ الأربعاء 4 فبراير السابعة مساء .. احمد حسنين يعود للزعماء ليقول أن السفير لامبسون قرأ وعقب أنه لا يرى فيما كتبوه رداً، وأنه سيأتيهم رده عليه تمام التاسعة مساء نفس اليوم
ـ الأربعاء 4 فبراير التاسعة مساء ـ سراى عابدين .. يحضر السفير لامبسون بصحبة الجنرال ستون، قائد القوات البريطانية فى مصر، مع أرتال من الدبابات والمصفحات حاصرت سراى عابدين من كافة الإتجاهات ..
ﻻمبسون يقدم لفاروق وثيقة التنازل عن العرش .. يمسك فاروق بالقلم ليوقع التنازل محتفظاً بكرامته وكرامة بلاده .. يتدخل أحمد حسنين باشا، عدو النحاس ورابع الحضور فى الغرفة المغلقة مع الملك ولامبسون والجنرال ستون، يتحدث مع فاروق فى كلمات بسيطة باللغة العربية لم يفهمها ﻻمبسون، كما ورد فى الوثائق البريطانية وصورة برقية ﻻمسون لوزير خارجيته ومذكراته التى روت لحظة أوشك فاروق على توقيع التنازل كما نقلتها لحضراتكم حرفيا، لتتحول كلمات احمد حسنين القليلة الى احد أسرار كهنوت السياسة المصرية الى يوم الدين .. يتراجع فاروق 180 درجة، ويقبل الإنذار ويعرض على ﻻمبسون إستدعاء النحاس أمامه لتكليفه بالوزارة ولامبسون يرى ألا داعى لذلك، يقصد إستدعاء النحاس أمامه، ثم يأمر بإنصراف القوات البريطانية حتى لا تكون فى مواجهة النحاس عند عودته لسراى عابدين.
ـ الملك يخرج الى المجتمعين ويكلف النحاس بتأليف الوزارة مؤكداً عليه أن تكون وزارة قومية لا حزبية، ويطلب منه المرور على السفارة البريطانية حين إنصرافه من عابدين ليبلغ السفير أن الملك كلفه بتأليف الوزارة .. النحاس يرد أنه لا ضرورة لذلك لأنه تلقى أمر التكليف من الملك .. الملك يؤكد للنحاس طلبه بالمرور على السفارة، ويذهب النحاس بالفعل كما ورد فى مذكرات لامبسون وكما سيلى،.. أحمد ماهر باشا، عضوحزب الدستوريين السعديين، ينفعل موجهاً كلامه للنحاس أمام الملك، (أنت يا نحاس باشا تؤلف الوزارة على أسنة الحراب البريطانية بعد أن رأيت الدبابات بعينى رأسك)، فيرد النحاس ( أنا لم أر دبابات ولا غيره) فيعقب اسماعيل صدقى باشا (لإنك جئت بعد أن إنصرفوا يا باشا أما نحن فقد رأيناهم) فيتدخل الملك منهياً حالة اللغط قائلا (بل أنا الذى أكلفه بتأليف الوزارة)
- قبل النحاس الوزارة على خلفيات ما سبق جميعه لتكون وزارته الخامسة ثم السادسة، ولتكون المرة الأولى والأخيرة التى يشكل فيها الوفد وزارة أقلية بتكليف ملكى وليس بتكليف شعبى عبر صندوق الإنتخابات، دون الوقوف عند الرغبة البريطانية، ثم يذهب للقاء لامبسون الذى يقول عن تلك المقابلة ( أبدى النحاس كل مشاعر الود والصداقة معى، وأخبرنى بأنه عقب مغادرتى القصر مباشرة قام الملك بإستدعائه، وكذلك قادة الأحزاب الأخرى، وأصر الملك على ضرورة تشكيل حكومة برئاسته، ولكن النحاس قد وافق على الإمتثال لهذا الأمر على مضض، وبالنسبة لهذا القرار كان يعتمد على مساندتى فيما يتعلق بالمساعدة المالية لمصر وقد كان الشعب المصرى يعانى من الفقر والجوع والإحباط النفسى، وقلت له لابد أنه من الطبيعى أن يعتمد على فى حدود إمكانياتى المتاحة ... وسوف يبذل النحاس قصارى جهده فى إعادة الأمور الى نصابها، خاصة شعور السخط والعداء إزائنا فى الأزمة الوزارية التى حدثت فى الشهر الأخير، يقصد يناير 1942 وحكومة حسين سرى باشا، وأولى الخطوات التى سيقفوم بها النحاس هى إصلاح شئون الدولة، وعلى ذلك فهو يعتمد كلية على معاونتى له
وحين سمعت وجهات النظر هذه من النحاس صادفت هوى فى نفسى، وارتسمت على محياى ابتسامة رضا وقناعة، وغادرنا النحاس وهو فى قمة الشعور بالسعادة والإمتنان)
* وهى مفاجأة جديدة، على الأقل لى شخصياً، أن أجد مصر ولا فارق بين عهد ديمقراطى وعهد ديكتاتورى، وأنها تسعى، فى ظل حقبتها الليبرالية، للحصول على المعونة الأجنبية بعد أن نشأنا على أن المعونة كانت من سوء أفعال حكومات ما بعد يوليو 1952، بل وأنه ثمة الملايين من الجنيه الإسترلينى ديون مستحقة لمصر على بريطانيا العظمى منذ الحرب العالمية الأولى، تتهرب الأخيرة من سدادها !!
ـ ثم يعلق لامبسون فى مذكراته مبتهجاً بالنصر قائلاً ( وحقيقة كان هذا الغلام، يقصد الملك فاروق، تحت سيطرتنا تماماً، وقد صدم أكبر صدمة فى حياته فى إجباره على قبول النحاس وإنى آمل، بل وأعتقد بأننا سوف نكون قادرين على قصقصة جناحيه، وتقليم أظافره، بالإضافة الى القضاء على المؤثرات السيئة، وبهذا نستطيع تطويعه لصالحنا فى المستقبل )، ثم يستطرد شارحاً أسباب ما فعل ( أن السياسة المصرية تعتمد على ركائز ثلاث .. القصر والوفد ونحن وإذا طغت إحداها على الأخرى لحدث إختلال فى التوازن بشكل تلقائى، بإختصار فإنه سيأتى الوقت الذى نتمكن فيه بكل بساطة أن نستخدم القصر فى وضع حد لتطرف حزب الوفد وكبح جماحه)
* بمعنى أن الإنجليز يكرهون الملك ويكرهون الوفد، والملك يكره الوفد ويكره الإنجليز، والوفد يكره الإنجليز ويكره الملك، فتفتق ذهنهم عن إستغلال سلسلة الكراهية بضرب الملك بالوفد وضرب الوفد بالملك !
ـ ذلك موجز 4 فبراير على حد علمى البسيط بحثاً علمياً وسماعاً من أقطاب الوفد الذين تواتروا الحادث عن أساتذتهم أو عاصروه فى صدر شبابهم، أبى وأعمامى الوفديين العماليق، غفر الله تعالى لهم جميعا ومتع الباقين منهم بكل الصحة، ليكون، حسب رأيى الشخصى، أحد أهم الألغازالمصرية، وأول الإنقلابات العسكرية بعد ثورة 1919، حسب رأى الكثير من المحللين، حتى لو نتجت عنه حكومة مدنية، الى جانب أنه، حسب رأيى الشخصى أيضاً، فتح باب السياسة أمام الجيش فلم يغلق حتى اليوم، فقد تعاطف الجيش، مؤقتاً، مع الملك المهان ضد الوفد، واعتبره قائداً للحركة الوطنية، حتى أنه تشكلت فرقة من بعض الضباط لإغتيال أعضاء وزارة 4 فبراير الوفدية، على حد ما روى نجيب الهلالى باشا وزير المعارف العمومية فى وزارتى النحاس الخامسة والسادسة، وزارتا 4 فبراير، كان منهم أمين عثمان عراب 4 فبراير.
- الشاهد ان الوثائق التى بحثتها تشير الى الكثير والكثير والكثير، وربما يشاء المولى إعادة الكتابة فيها موثقة من جديد، لكننى، وعلى إستحياء، وبأمانة البحث العلمى الممنهج، ومع فداحة إهدار الكرامة والسيادة المصرية أثناء حصار، بل وإقتحام سراى عابدين كما أورد المؤرخون وفى مقدمتهم نص مذكرة اللواء أحمد صادق باشا قائد البوليس الملكى آنذاك، أرى أن النحاس كان بإمكانه قراءة المشهد دون تسرع وبعيداً عن ضغوط المقربين ومآربهم والوسيط ومصالحه، وقتها كان سيرى بوضوح أن اﻹنجليز على إستعداد لعمل "عجين الفلاحة" مقابل تهدئة الجبهة الداخلية، التى لن يهدأ أغلبها إﻻ بمجئ النحاس، لذلك ربما كان بإمكانه ، حفاظا على كرامة مصر، أن يشترط سحب اﻹنذار اﻹنجليزى أولاً وفك حصار سراى عابدين، بل وتقديم إعتذار رسمى للملك بصفته رمز الدولة المصرية، ذلك مقابل قبوله الوزارة الذى سيصب فى صالح اﻻنجليز فى المقام اﻷول، وقتها كان اﻻنجليز سيقبلون بمنتهى المذلة، ذلك إذا نظرنا الى الحدث كما صورته تابوهات الوفد رافضين أى أحاديث أخرى عن أن ما تم قد تم بترتيب مسبق كما يرى المؤرخون أو كما ذكر السفير البريطانى فى مذكراته وفى برقياته للخارجية البريطانية، فماذا منع النحاس عن الإشتراط ؟ خوفه على الشعب أم تسرعه أم سوء تقديره أم أحد فصول اللغز الكبير الذى كان من المفترض أن يكتمل بعزل الملك وإعلان الجمهورية 1943 ؟!!
- وأياً كانت الخلفيات والمبررات، وحسب رأيى الشخصى، فتسرُّع النحاس فى قبول الوزارة على خلفية تلك الصورة المهينة، دون إشتراطات تحفظ الكرامة، نال كثيراً من شعبية الوفد كممثل للوسط الليبرالى الديمقراطى مقابل تضاعف قوى اليمين ممثلة فى جماعة الإخوان وقوى اليسار ممثلة فى الجماعات الماركسية، الى جانب ظهور الملك كرمز للحركة الوطنية فى نظر شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة وضباط الجيش حتى 1946، وتمهيد الطريق وخلق الأسباب لثورة 23 يوليو 1952، "وجعل الفروق بينه، أى الوفد، وبين خصومه من الأحزاب الأخرى تبدو لكثيرين فروقا في الدرجة، وليست فروقا في نوع الموقف السياسى" ـ على حد تعبير أستاذنا الجليل المستشار طارق البشرى فى حديثه عن الوفد ومعاهدة 1936
ـ ربما أكون، رغم الإطالة، مقصراً فى سرد القصة بإختصار دفع اليه ضيق المجال، وربما جانب رأيى الصواب حول مسألة تسرع النحاس فى قبول الوزارة، لكنه يبقى إجتهاد الباحث عن حقيقة تلك الفترة التى ماجت بأحداث جسام إنتهت بتغيير وجه مصر بعد 23 يوليو 1952، لكن يقينى أن النحاس، نبى الوطنية، لم يكن خائناً بقبوله الوزارة على أسنة الحراب البريطانية، على حد تعبير أحمد ماهر باشا، لكنِّى أرى أنه نحّى الحنكة السياسية فى مسألة تطويع الأزمة والخروج منها فى صورة تليق بزعيم الأمة، ولم يثبت لى، على حد جهدى المتواضع، ولم أجد ما يشير الى أنه دعى قيادات الوفد التاريخية لإجتماع عاجل للمشورة وإتخاذ القرار بل تصرف منفرداً بديكتاتورية واضحة، وتسرّع، تحت ضغط أصحاب المصالح، فى إنتهاز الفرصة للخروج ببلاده وشعبه من عاصفة مدمرة أقحمت مصر رغماً عنها لتصبح ساحة من ساحات الحرب العالمية الثانية دون إرادتها، ودفع هو والوفد ومصر ثمن ذلك غالياً، حاول الوفد إستعواضه على المستوى الشعبى بإلغاء معاهدة 36، لكن بعد فوات الأوان وباسلوب إستعراضى لا يتناسب مع الحدث.
والحقيقة أن الأمر برمته كان أكبر من النحاس وأكبر من الملك وأكبر من غرور لامبسون وستون وأنطونى إيدن، وأكبر من كل القوى السياسية المصرية مجتمعة، لقد كان "تسونامى الحرب والجيوبوليتيك" إن جاز التعبير، تموج داخله القوى العظمى فتتصارع صراع إما الموت وإما البقاء والنفوذ والسيطرة.
ـ يبقى أن الدراسات البحثية أبداً لا يمكنها الحكم على موقف سياسى ما بطريقة تقترب كثيراً من الدقة، اللهم اﻻ إذا تعايش الباحث محاكاة لنفس الظروف الزمانية واﻻجتماعية والسياسية داخليا وخارجيا، وتلك هى مهمته الشاقة بحثاً وحياداً متجنباً شهوة إبداء الرأى قدر المستطاع !
غفر الله تعالى للجميع، والعبد لله على طرفهم، ووسعنا جميعاً فى رحمته، ورعى الله الوفد .. وحمى الوطن .. وبارك كل مخلص له أمين، آمين
ضمير مستتر
نسيان التاريخ هو أحد مظاهر موت الأمة
سعد زغلول
علاء الدين حمدى شوَّالى
كاتب وباحث سياسى مصرى
[email protected]