تعبر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) 2019، إلى يوبيلها الذهبي في خمسينيتها الأولى وهي تودع عاماً نضالياً حافلاً بالتضحيات، وتقتحم بنضالاتها نحو العام الواحد والخمسين المثقل بالواجبات والتحديات، في ظل استحقاقات سياسية شتى على كافة المستويات الوطنية في معارك صون بندقية المقاومة والدفاع عن البرنامج الوطني الموحَّد والموحِّد، لمواجهة الاستعصاءات الكبرى التي تستهدف تصفية المسألة الفلسطينية وتسييد إسرائيل في حلف إقليمي وتدمير مستقبل الشعوب العربية ومصالحها الوطنية ونهب ثرواتها وشق الطريق نحو تطبيق «صفقة العصر».
الإدارة الأميركية شطبت بجرة قلم، حقوق الشعب الفلسطيني الذي ناضل ويناضل منذ نكبته الأولى في العام 1948 وعاش أشكالاً من المآسي ومعاناة التشريد والنزوح والتشتيت، وقدم مئات آلاف الشهداء دمائهم وقوداً لإشعال لهيب الثورة والانتفاضة، في مواجهة استحقاقات «اتفاق أوسلو» البائس الذي لا يقل عن جدار ترامب العنصري في إسقاط حقوق الشعب الفلسطيني، لا سيما أن فريق أوسلو بخياراته الانفرادية والتفردية ما زال يراهن على إمكانية احتلال موقع في المشروع الأميركي المسمى «صفعة العصر» يحفظ له ما راكمه من مصالح وامتيازات فئوية وانقسامية على حساب المصلحة الوطنية العليا، دون التعلم من تجارب الماضي وثورات الشعوب، رغم أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قتلت الاتفاق أكثر من مرة باقتحام المدن والقرى الفلسطينية في مناطق أ + ب، والسطو والقرصنة على المال العام الفلسطيني بخصم مخصصات الشهداء والأسرى من عوائد الضرائب الفلسطينية، والتنصل من تجديد تفويض بعثة الدوليين في الخليل التي شكلت عقب مجزرة الحرم الإبراهيمي، وبالرغم من اعتراف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أكثر من مرة، أنه رئيس «لدولة بلا سيادة»، و«لسلطة بلا سلطة».
إن الشعب الفلسطيني يقف اليوم أمام مفترق طرق في عام نكبته الواحد والسبعين وابنتها النكسة التي تجاوزت عامها الخمسين وصنعت حلقة جديدة من الصراع الاستعماري على الأرض والحقوق الوطنية الفلسطينية، وحفيدها الانقسام البغيض الذي يدخل عامه الثاني عشر في الصراع على السلطة والمال والنفوذ بين حركتي فتح وحماس، ويقف حجر عثرة في وجه انجازات الشعب الفلسطيني المعمدة بدماء شهداء الثورة والوطن، ليُسقط غزة في وحل الأزمات الحياتية والمعيشية ويدفع بها نحو الطلاق الجغرافي والسياسي مع الضفة والقدس.
اتفاق أوسلو استعاض عن البرنامج المرحلي (النقاط العشر) -الذي طرحته الجبهة الديمقراطية عام 1973، برنامج الإجماع الوطني واعتمدته دورة المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974-، فكان «أوسلو» هو الخيار الأسوأ فلسطينياً، حيث أسقط خيار الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال، واعترف بحق إسرائيل في الوجود دون اعتراف إسرائيلي متبادل بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بل وحذا نحو برنامج الحلول الجزئية الذي حوّل الضفة الفلسطينية والقدس وقطاع غزة من أراضي محتلة بحكم قرارات الشرعية الدولية إلى أراضي متنازع عليها يُضفي لإسرائيل الحق في نهب الأرض وتكثيف الاستيطان وتوسيعه وتهويد القدس، بل وأجلّ فريق أوسلو الملفات الرئيسة (القدس، اللاجئون، المستوطنات، المياه، المصير النهائي للضفة وغزة...)، التي تمثل جوهر القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، إلى مفاوضات الحل النهائي، استغلت إسرائيل التأجيل لمراكمة الوقائع على الأرض لغياب أي اتفاق يقيّدها بتعزيز مواقعها الدولية، وتبهيت الالتزام الدولي إزاء حقوق الشعب الفلسطيني والشروع بفتح بوابات التطبيع العلني والسري مع عديد الدول العربية والإسلامية.
حيث شكلت انطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين محطة نضالية مميزة ومنعطفاً تاريخياً بأبعاده المختلفة منذ خمسين عاماً، لأنها الفصيل اليساري الديمقراطي الذي جاهر بيساريته، على طريق التحرر الوطني الناجز للشعب الفلسطيني، وهي جزء أصيل من الطبقة العاملة الفلسطينية وتعمل لتوحيد العلاقة الكفاحية بين فصائلها وسائر مكوناتها، تستند إلى تحليل فكري وسياسي متماسك مسترشدةً بالاشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الاجتماعي ودليل للعمل من أجل تغييره.
ولا تزال الجبهة الديمقراطية تلعب دوراً طليعياً في مواجهة «صفقة ترمب» التي تنفذ خطوة خطوة، وصوغ المبادرات الوطنية واحدة تلو الأخرى لإسقاط الانقسام وتداعياته الخطيرة على القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وتناضل لرفع العقوبات والحصار عن قطاع غزة وتمكين حكومة السلطة الفلسطينية لتحمل مسؤولياتها وواجباتها كاملة أمام شعبنا الغارق في أزماته الاقتصادية والاجتماعية، بإيجاد حلول لمعضلات الكهرباء والمياه والبنية التحتية، والفقر والبطالة، وهجرة الشباب عبر مراكب الموت، وتوفير العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والكرامة، وإطلاق الحريات العامة والديمقراطية وتجريم الاعتقال السياسي وتحريم المناكفات الإعلامية، ووقف سياسة قطع الرواتب والتقاعد المبكر. فغزة يكفيها حصار إسرائيل ولا داعي لإجراءات عقابية بحق القطاع تزيد من معاناة شعبنا الفلسطيني.
إنها الجبهة الديمقراطية، تقف حصناً منيعاً في صون بندقية المقاومة في غرفة العمليات المشتركة، وتدافع عن البرنامج الوطني الموّحد والموحّد طريق الوحدة الوطنية الشاملة الجامعة والائتلافية، طريق الانتفاضة والمقاومة، طريق دحر الاحتلال وتفكيك الاستيطان، ومجابهة «صفعة العصر» الأميركية، لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967، هذا الطريق الذي أعاد التأكيد عليه المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في دورته في (كانون ثاني (يناير) 2018) والمجلس الوطني في دورة (30/4/2018)، بوقف المراهنة على اتفاق أوسلو البائس وإعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل بوقف العمل بقيوده الأمنية والسياسية والاقتصادية وتطوير الانتفاضة والمقاومة الشعبية ومنها «مسيرة العودة وكسر الحصار» والعمل على حمايتها باعتبارها عملاً نضالياً وجماهيرياً، على طريق العصيان الوطني الشامل، وتدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية.
حقاً إنها الجبهة الديمقراطية، التي لم تكل أو تتعب على نحو خمسة عقود صانت فيها بندقية المقاومة وتسلحت بالنضال الوطني إلى جانب البرنامج السياسي، كان شعارها على الدوام «البندقية بيد.. والبرنامج السياسي باليد الأخرى»، أمام كافة الاستحقاقات الفلسطينية، فهي التي طرحت البرنامج المرحلي، ودافعت عن شعبنا وحقوقه الوطنية في خوض عديد العمليات النوعية والبطولية أبرزها معالوت، وصقور الدولة الفلسطينية المستقلة، وعين زيف، وشيرشوف، وطبريا، والناصرة، ولينا النابلسي، وبيسان، والقدس، لتوجه رسالة مفادها أن البرنامج المرحلي هو برنامج الكفاح وليس الاستسلام، فالعدو لا يفهم إلا لغة القوة.
وكرست القوات المسلحة الثورية الذراع العسكري للجبهة الديمقراطية دعمها لانتفاضة الحجارة عام 1987 من الخارج عبر عملياتها البطولية أبرزها عملية الشهيد عمر القاسم، وأبو عدنان، وشهداء جباليا وجنين مع عمليات النجم الأحمر داخل الأرض المحتلة، فيما توحدت جهود القوات المسلحة الثورية مع كتائب المقاومة الوطنية في ضرب أهداف الاحتلال والمستوطنين داخل الأراضي المحتلة عام 1967 وأبرزها، عملية حصن مرغنيت، ومستوطنة يتسهار، وايتامار، وحاجز أبو هولي، والنقاط العسكرية في معبري المنطار ورفح، والقرارة، وصوفا والطريق إلى فلسطين. وتناضل دوماً لتوطيد وحدة طبقات الشعب وقواه الوطنية في مختلف أماكن تواجده داخل فلسطين وفي أماكن اللجوء والشتات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية على أسس تشاركية ديمقراطية وبما يرسخ مكانتها ودورها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
وتنظر الجبهة الديمقراطية إلى المقاومة في الميدان بأنها شكل من أشكال النضال والكفاح لدحر الاحتلال ومستوطنيه، وتتوج أشكال النضال الأخرى وليست بديلاً عنها، ولن تحقق أهدافها بمعزل عن النضال الجماهيري الذي تجسد بانتفاضة الحجارة والأقصى، وانتفاضة القدس والحرية ومسيرات العودة وكسر الحصار، إضافة إلى النضال السياسي الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والنقابي وسوى ذلك.
وعلى هذا الطريق تواصل الجبهة الديمقراطية مسيرتها النضالية خلال خمسة عقود، قدمت آلاف الشهداء من أعضاء مكتبها السياسي، ولجنتها المركزية القادة الأبطال وكوادرها، دفاعاً عن الثورة والشعب والوطن في مواجهة المشاريع البديلة واتفاق أوسلو و«صفقة العصر» والتطبيع العلني والسري. المجد كل المجد لهم ولشهداء شعبنا الفلسطيني، والأسرى البواسل الحرية كل الحرية من سجون الاحتلال، والشفاء العاجل للجرحى الميامين، والتحية لكافة مناضلات ومناضلي شعبنا في الوطن والشتات والمهاجر... عاش العيد الخمسين للانطلاقة المجيدة للجبهة الديمقراطية «اليوبيل الذهبي»، عاشت الذكرى ودام نضال شعبنا ومقاومة جبهتنا..
بقلم:وسام زغبر
عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين