ليس تخليا عن الكتابة بأسلوب رصين وابتعادا عن التحليل الموضوعي؛ بل وضعا للنقاط فوق الحروف، ففي الحروب الحاسمة، ووقت الخيارات المصيرية في حياة الأمم والشعوب، لا يتسع المجال، ولا توجد للمرء طاقة تمنحه التفنن في طلاء الكلمات وتزيينها كي تصبح حمّالة أوجه وموضع تأويلات شتى، فالأمر جدٌّ وهو غير مزاح، وقد طغى الخطب، وفدح الأمر، وبلغت القلوب الحناجر. وعليه فإن الفلسطيني سوف يقلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، وسيعلم بهذا العرب والعجم والبربر والسلاف والزنج والإفرنج ومن عاصرهم من ذوي الظلم الأكبر ترمب ونتنياهو، ولا أقول هذا مثل ذبيح ينتفض أو محكوما بالقتل توشك المقصلة أن تفصل رأسه عن جسده، أو فريسة وقعت في الفخ دامية يظن من يحسب نفسه صيادا ماهرا أنه سيناجزها!
وإذا قيل من/ما أنت؟ وباسم من تتكلم؟ بل من أعطاك حق الكلام والحديث ورمي هذا الإعلان؟ هل أنت مسؤول فلسطيني؟ أم قائد فصيل فلسطيني كبير أو صغير؟ هل أنت من أصحاب رؤوس الأموال؟ هل أنت من النخب العشائرية أو الاقتصادية أو الأكاديمية؟ لست قائدا ولا مسؤولا ولا ثريا ولا ابن عائلة كبيرة، ولا يسبق اسمي حرف ميم أو دال...فقط أنا فلسطيني صاحب حق مهضوم، وابن شعب مظلوم، ولكن لا توقف عن المطالبة بالحق، ولا قبول للظلم وتسويقه على أنه إنصاف وعدل.
وإذا كانت الذاكرة عندكم قصيرة؛ فسأذكركم بأمور لن أعود بكم كثيرا إلى أزمنة لم أكن أنا قد جئت إلى الدنيا وقتها، بل إلى أحداث عشتها ورأيتها؛ عودوا إلى سنة 1408 هجري الموافقة 1987 ميلادي؛ فقد كان الاحتلال يعيش أياما مشهودة من الرخاء النفسي تجاه من ظن أنه قد دجنهم وروّضهم، فأشغلهم بالعمل في مستوطناته، وأغرقهم في وهم ملذاته، وزجّ في السجن من حاول التصدي لمعادلاته، وإخوته العرب قد شغلتهم حالة التنافس والتباغض؛ فذاك يهلل لواشنطن وذاك يحمد موسكو، والحرب العراقية-الإيرانية قسمتهم وأشغلتهم، وزعماء الدول الكبرى صاروا ينظرون إلى أن أهم قضية في العالم تبهت بمرور الوقت ولا داعي للقلق، فكل شيء يسير وفقما خطط أسلافهم لتقاسم إرث (الرجل المريض).
وكان بيان القمة العربية في عمّان وقتها يعبر عن هذا التوجه الدولي والإقليمي والعربي، حيث لم تتصدر القضية الفلسطينية –كما جرت العادة- بيان الدول الناتجة عن سايكس-بيكو في الهلال الخصيب، وما يشبهها في بقية بلاد كانت فوقها يوما ما راية واحدة، فصارت فوقها عشرون راية أو يزيد، صاغوا بيانهم وفق تصور سيعلمون بعد شهور أنه خطأ فادح في الحسابات أجمعها، حينما ظنوا أن قضية فلسطين ليست الأولى ولا الأهم!
من الذي قلب كل المعادلات واقتحم كل شيء في العالم حتى قواميس اللغات الحيّة؟ إنه الفلسطيني المسلح بحجر في يده، وبقلب صاحب الحق الذي لا يزول بالتقادم في صدره، ففجر (الانتفاضة) التي صارت حديث الدنيا وشغل العدو وقلقه وهاجسه؛ فاستدعى كتائب وألوية جيشه الذي صار يلاحق الأطفال والفتية الفلسطينيين في أزقة شوارع المخيمات...هكذا كان، هل تذكرون؟!
وبعد أن ظن العالم أن الفلسطيني سيرضى بالدنية، ويقبل فقط بتحسين ظروف الاحتلال، وبعض المظاهر الشكلية، وفق اتفاق صيغ بعد أن صار العم سام حاكما للعالم، وجرّ العرب بلغة الآمر إلى مدريد، ثم طمع كلينتون بجائزة نوبل من بوابة تصفية أقدس وأعدل قضية في العصر الحديث بل لربما في التاريخ الإنساني جميعه...فإذا بالفلسطيني من جديد يقلب الطاولة، ويعيد صياغة المعادلة في انتفاضة أيلول/سبتمبر 2000 التي أعادت فلسطين رغم أنف النظام الدولي الظالم إلى الصدارة من جديد...هل تذكرون؟ أذكر من قال نعم أو قال لا!
وسيتبجح متبجح بالقول: كان هذا في وضع دولي وإقليمي مختلف؟ فقد كان هناك أنظمة عربية قوية عسكريا واقتصاديا تدعمكم ولو بالحد الأدنى، وكان وضعكم الداخلي مختلف تماما، فلم تكونوا منقسمين كما أنتم اليوم، ولم يكن خطابكم فيما بينكم مثلما وصل له اليوم من حدّة ولغة عدائية...وعليه فلا تقارن بين شتاء 1987 أو خريف 2000 وما جرى بعدها، فأنتم الآن كالأيتام على مائدة اللئام، وستقادون إلى حيث يريد النظام الدولي المهيمن عليه من الصهيونية، ولن تجدي تهديداتكم، ولن تنفع مقاومتكم!
أقول وعلى الله التكلان: نعم، فقد اختلفت الأمور، وصار كل جزء من الأجزاء المقسمة في محل تقسيم وتجزئة جديدة أو ينتظر، والعرب رسميا وشعبيا في حالة لا تعطيهم حتى في فضول الوقت مساحة للنظر إلى فلسطين، والفلسطينيون منقسمون، ولغة خطابهم الداخلي انتقلت من الخصومة إلى العداء، وحالهم صعب جدا...ولكن رويدك، لا يخدعنّك هذا كله، فتظن أن كل هذه المصائب ستجعل الفلسطيني يستسلم أو يفقد قدرته التاريخية على قلب الطاولات، وكسر المعادلات.
فتعال إلى مدن ومخيمات الضفة وقراها لترى كيف يواجهون جنود العدو وأوباش مستوطنيه، ولعل التقنيات الحديثة تعطيك نموذجا وصورة يفترض أن تكوّن لديك فكرة مغايرة؛ فإذا كنت وأنا ابن هذا الشعب وهذه الأرض أعجب وتعتريني نفحات من الدهشة حينما أرى الأطفال والفتيان يلاحقون جنود الاحتلال ويتسلقون جيباته العسكرية، ويلقون عليه الحجارة من مسافة، أقرب بكثير من المسافة التي كان آباؤهم يلقونها عليه في ذات الأمكنة قبل 30 عاما، فوجب أن تعجب أنت وتندهش أكثر حتى تعلم... وفي الضفة شبان بسكاكين أو بسلاح مصنع محليا ينالون من عدوّهم نيلا يربكه ويفقده صوابه.
وفي غزة مسيرات عودة تقترب من مرور عام قلبت حسابات الجيش والمستوطنين جنوب فلسطين؛ وغزة تحدت الحصار، ونازلت العدو مرات عدة، وأثبتت أن جيشه الذي سوّق النظام الرسمي العربي، أنه لا طاقة لنا به، فلنصنع معه سلاما، مبني على مبدأ التنازل، وإضمار الاستسلام التام، هو جيش قابل للهزيمة، بل يخشى الدخول إلى ساحل مكشوف ضيق مكتظ بالسكان، فلقد خبر غزة وشكيمتها، ويكفيك صورة المقاومين وهم يدوسون بأقدامهم الطاهرة على رأس أحد علوج يهود في ناحال عوز صيف 2014.
وفي القدس مرابطون ومرابطات، لم تشغلهم المصائب ولا المكائد عن الدفاع عن المسجد الأقصى، ويوميا يتصدون للاعتداءات المتكررة عليه، وينوبون عن مليار و800 مليون مسلم في معركة الدفاع عن قبلتهم الأولى وثالث مساجدهم ومسرى نبيهم، ومحط رحل أمير المؤمنين عمر، فلا يرهبهم شيء في معركة الدفاع عن المسجد الأقصى يحاذرون أن يُقسّم أو يهونا! كيف سيكتب التاريخ عن هؤلاء لاحقا؟ وكيف سيبرر من خذلهم موقفه أمام الله تعالى؟ وأي عار سيلحق بمن يترك هؤلاء دون أي سند من أي نوع، بل يذهب إلى (التطبيع) مع ظالمهم ومغتصب أرضهم ومدنس مقدساتهم.
صفقة قرن طبخت، وهرولة وتطبيع عربي مخزٍ ومعيب مع أكثر قادة الصهاينة عدوانية وتطرفا وعنصرية، يستبطن الخوف أو الاستقواء بالأمريكي، والاستهانة بقدرات الفلسطيني، متوهما حالة ضعفه، منتهزا انقسام فصائله... وضع سيسقط بكافة مظاهره ويتحوّل إلى ركام حينما ينتفض الفلسطيني ويقلب الطاولة بعد أن يضربها بقبضة يده صارخا: أنا فلسطيني، حقي هو القدس والعودة والحرية، ولا بديل عن ذلك. عندها فقط سيعيد الهازئ الآن بكلامي حساباته، ولات حين مندم، وسيحمد الله من يأخذها على محمل الجدّ، واضعا أمام عينيه تاريخ الفلسطيني! الله غالب
سري سمور كاتب ومدون فلسطيني