بعيداً عن جو الاحتفالات والمؤتمرات والاعلانات البراقة المطاطة، وسيوف معارك الفضاء الافتراضي الخشبية بين حملات "ارحل" و"ما ترحل" ، تدور على أرض الواقع منذ أيام معركة حقيقية بين المقدسيين الشرفاء من جهة والحاخامات اليهود الصهاينة ممثلين بقوات الاحتلال الاسرائيلي من جهة أخرى.
موقع المعركة هو باب الرحمة الباب الأقرب الى قبة الصخرة، والمحور الأهم في سلسلة الصراع القادم بين اسرائيل والفلسطينيين. ففي رمزية بالغة الدلالة / لمن يفهم/استطاع المقدسيون كسر السلسلة الحديدية والأقفال التي وضعها الاحتلال في غفلة لمنع الوصول الى الباب. وبرغم الاعتقالات والمنع والوضع الكارثي لحالة الفلسطينيين في القدس يثبت أهلها مرة تلو الأخرى انهم أهل الرباط وأن الوطنية والإرادة والنخوة ليست وجهات نظر تتغير مع تغير الواقع السياسي والجغرافي..
باب الرحمة..هذا الباب المهيب شكلا وموضوعا وجدلا، هو المنفذ الاسرائيلي لتهويد مقدسات المدينة المقدسة، فالخرافات التلمودية قد نسجت حوله بعناية وعششت في الأسفار والاسرائيليات، حيث يشار اليه في الأدبيات الاسرائيلية الدينية باسم "بوابة شوشان" لاتجاهه شرقاً ناحية مدينة شوشان في ايران والتي كان يقبع بها "كورش" امبراطور بلاد فارس مئات السنين قبل الميلاد وهو يكاد يكون الوحيد الذي يجمع اليهود بأطيافهم المختلفة على تمجيده كونه سمح لهم بالعودة للقدس. وحسب معتقداتهم أن النبي سليمان هو أول من بنى هذا الباب، وان المسيح دخل منه للقدس وسيعود في نهاية الزمان مرة أخرى ليدخل منه للخلاص!
وبغض النظر عن الخرافات الاسرائيلية التي دائما ما تتشكل خلف الأبواب المغلقة وفي السر وفي ظلمات العوالم الغريبة وتنسج قصصا لا أول لها ولا آخر لتشعرك بأنك تعيش في عالم سفلي لا في الدنيا، فإن هذا الباب هو منفذ العقلية الاستراتيجية الصهيونية للاستيلاء على الأقصى. والحرب عليه قديمة ومستمرة منذ حاول "موشيه ديان" فتح الباب عام 1967 بالقوة وفشل، وتتجدد كلما تسنح الظروف والمتغيرات. حيث كان العام 2001 فارقاً في مسيرة الاستيلاء الاسرائيلي عليه حين اصدر مجلس الحاخامات في اسرائيل اقتراحاً بإقامة كنيس يهودي في المكان، لتتوالى بعدها المحاولات لإرهاب الفلسطينيين وإطلاق النار على حراس الباب واغلاق مكاتب لجنة التراث وإقامة شعائر تلمودية بملابس تنكرية في المكان وأعمال حفر للقبور حتى وصل الارهاب الاسرائيلي الى منع الدفن في مقبرة الرحمة تطبيقاً للخرافات الاسرائيلية.
خمسة وعشرون عاما بالضبط تفصل بين معركة باب الرحمة المستمرة ومذبحة الإرهابي باروخ غولدشتاين التي أزهقت فيها أرواح 29 طاهراً مصلياً فجر يوم جمعة من رمضان 1994 .. مفارقة زمنية غريبة تنذر بأن الأوضاع مصيرها الانفجار رغم ما يشاع عن أحاديث التطبيع الكاذبة والأوهام الفارغة التي يعيشها بعض العرب بأن اسرائيل بلد سلام وتعايش، فالمحاولات الصهيونية لن تتوقف عند حد معين وفي المقابل لن تتوقف الحركة الشعبية الفلسطينية في الدفاع عن القدس التي بات يشار إليها في خطابات الزعماء بالقدس الشرقية عوضا عن القدس الشريف.
بقلم : د. اماني القرم