ألم الواقع يفوق خيال الشاعر

بقلم: أسامه الفرا

لم يصل الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط بخياله الساخر إلى حدود الواقع عندما كتب سيناريو فيلم الحدود الذي لعب دور بطولته الفنان دريد لحام، حاول الماغوط باسلوبه السياسي الساخر أن يكشف عورة وزيف الوحدة العربية من خلال مأساة مواطن فقد أوراقه الثبوتية عند الحدود بين وطنه والدولة المجاورة له "غربستان وشرقستان"، لعل ما يشفع للكاتب في ذلك أنه لم يعش حالة التردي والانحدار التي وصلت لها الأمة العربية بفعل اعصار الخريف الذي اجتث الكثير من قيم وأخلاق الأمة قبل أن يعصف بمقدراتها ويتركها تلعق جراحها بين أطلال دول استمرأت شعوبها سفك دمها.
نعرف جيداً أن عوامل الدين واللغة والقيم والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك لم تعد بذات القوة التي تحافظ على تماسك الأمة وكرامتها، وحالة الوهن التي تمر بها الأمة العربية دفعت دولة الاحتلال لأن تمارس ساديتها وتتغطرس في امتهان كرامتنا، ولا تتوقف جرائم الاحتلال بحق شعبنا عند الأحياء منا بل تطال الشهداء، وأحدث جرائم الاحتلال الأخلاقية والقانونية والانسانية والدينية تتعلق باحتجاز جثمان الشهيد فارس بارود، كان بارود قد اعتقل في مارس 1991 بتهمة قتل مستوطن في سياق مقاومته للاحتلال التي شرعتها كافة المواثيق الدولية، وحكم عليه بالسجن المؤبد وعانى خلال سنوات اعتقاله من عدة أمراض لم يتلق خلالها الحد الأدنى من الرعاية الصحية المطلوبة، وبجوار معاناة المرض كانت معاناته من منع الاحتلال لذويه بزيارته منذ عام 2000، رحلت والدته دون أن يودعها ودون أن يهمس في أذنها عن وجعه بغيابها، ارتقى بارود شهيداً في فبراير الماضي ولم يكن ذلك كافياً لأن يغلق الاحتلال صفحات جريمته بحقه بل عمد لمواصلة جريمته بإحتجاز جثمانه.
كان قرار محكمة الاحتلال في بئر السبع يقضي بالموافقة على تشريح جثمان الشهيد فارس بارود ثم تسليمه لذويه لدفنه، قبل أن تتراجع المحكمة لاحقاً عن قرارها السابق بتسليم الجثمان وأقرت باستمرار احتجازه تماشياً مع طلب شرطة الاحتلال، وقررت اليوم المحكمة العليا للاحتلال بعدم دفن الاسير الشهيد بارود لحين البت النهائي في الالتماس المقدم من هيئة شؤون الأسرى والمحررين باسترداد جثمانه رغم مضي أكثر من شهر على استشهاده، قرار المحكمة العليا للاحتلال بما يحمله من جرم أخلاقي وانساني وديني بعدم تسليم جثمان الشهيد لذويه يمنع ايضاً دفنه في مقبرة الأرقام، تلك المقبرة التي يحتجز الاحتلال فيها المئات من شهداء فلسطين ليتحولوا إلى مجرد ارقام يحتفظون بها دون أن يكون لذوي الشهداء حتى حق المرور على قبورهم.
رغم مضي اكثر من شهر على استشهاده، جثمان الأسير بارود ينتظر عند الحدود الفاصلة بين مقبرة الأرقام بكل ما تحمله من ألم مضاعف لذوي الشهيد سيما وأنها ليست محطة مؤقتة، حيث أن العبد الفقير ومعه المئات من الاسر الفلسطينية ما زالت تنتظر حرية رفات شهدائهم من مقبرة الأرقام منذ عقود عدة، وإما أن يكف الاحتلال عن سياسته العقابية للشهيد ويسمح لذويه بدفنه، أليس الواقع الذي نعيشه يحمل من السخرية ما يفوق بكثير ما ذهب إليه الماغوط في الحدود؟.

د. أسامه الفرا