اليسار الفلسطيني الجديد.. وموقعه في الخارطة السياسية

بقلم: معتصم حمادة

 (1)

■ التوازنات السياسية في ساحة العمل الوطني، منذ انطلاقة مرحلة الكفاح المسلح، حققت شكلاً من أشكال الديمقراطية، أفسحت في المجال لتعدد الرأي، والنقد العلني والجرأة في المراجعة، وهو ما أسهم إلى حد كبير في إغناء الفكر السياسي الفلسطيني، وإثرائه، والإنفتاح على النقاش الحر.

غير أن البعض، ولأسباب متعددة، حاول أن «يختص» بنقد اليسار الفلسطيني، ووضعه على الدوام تحت المراقبة، حتى أنه تجاهل الحالة الوطنية الفلسطينية، بكل مكوناتها، ولم يجد سوى اليسار الفلسطيني موضوعاً يلجأ إليه كلما حمل القلم ليقول كلمته في معرض مراجعته للأوضاع. وليس خافياً أن العديد من الأقلام قدمت خدمة لليسار الفلسطيني في معرض إنتقادها له، لسبب وجيه، أنها تشعر بإنتمائها إلى اليسار، كتيار، وإن لم تكن تنتمي إليه كحزب أو تنظيم. وبالتالي لعبت مراجعاتها وإقتراحاتها وخلاصاتها دوراً إيجابياً في تقديم النصائح لليسار ولبرنامجه ولأساليب أدائه.

بالمقابل، حول البعض الآخر نقده لليسار إلى معول للهدم، بحيث تنتهي مراجعاته [ إن كان ينطبق عليها توصيف المراجعة] وإنتقاداته [إن كان ينطبق عليها هي الأخرى توصيف الإنتقاد] على الدوام بنزعات وتوجهات عدمية، سوداوية، لا ترى في تجربة اليسار وتضحياته، ومساهماته، ودوره اليومي، ما يستحق الحد الأدنى من الثناء.

ولعل أكثر الأطراف والأشخاص تحاملاً على اليسار، هي الفئات التي لفظها اليسار خارجه، إما لأسباب سياسية، حين مالت بجوانحها ومشاعرها ومصالحها الفئوية نحو اليمين وسياساته، بما في ذلك الإنجرار وراء عربة أوسلو، وإما لسلوكيات شخصية معروفة لمحيطها، أو لأنها أثبتت فشلها في العمل السياسي والنضالي، فإنكفأت تبحث عن ملاذ لها، تتعيش فيه على «تاريخها النضالي»، الذي لا تتردد في إطلاق النار عليه، هو أيضاً، حين تستبيح التجربة السياسية التي كانت طرفاً فيها، بالكثير من الشتائم والتشويهات والتحريف والأكاذيب. ثم تتحول، بقدرة قادر، إلى خبير في الفكر والوعي اليساري، ترصف الأفكار، واحدة وراء الأخرى، في موقع المزايدات الرخيصة، التي لا تكلفها سوى عناء خط بعض الكلمات، في مقالة ما، تنشر في هذه الصحيفة أو تلك، مقابل مكافأة مالية مجزية. وبالتالي بدأ التهجم على اليسار مهنة من لا مهنة له، وصرعة سياسية، تدر على أصحابها المكافآت المالية.

(2)

العيد الخمسون لإنطلاقة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، شكل مناسبة تلقفها البعض لينطلق منها إلى رجم الجبهة واليسار الفلسطيني الجديد وتجربته الغنية بالحجارة، بعد أن حبّر العديد من الصفحات في حملة «بايعناك»، وحملات الدفاع عن إيجابيات أوسلو، ومكاسب أوسلو، وعن السلطة التي باتت أقرب إلى «الدولة»، ولا ينقصها سوى أمر واحد لا غير، هو «رحيل الإحتلال والإستيطان». أو عن الدفاع عن المفاوضات السلمية

سبيلاً وحيداً إلى الحل، أو «إدانة» المقاومة لأنها تعود على شعبنا بالخراب والدمار «أو يتباكى على دماء الشهداء الذين تدفع بهم بعض الفصائل إلى الموت». حتى أن البعض حاول أن يتذاكى على الرأي العام، فكتب «مهنئاً» بإنطلاقة الجبهة، ليرسم في سياق «تهنئته» هذه تجربة سوداء، لم تخدم القضية الوطنية وشعبها. وفي إعتقاده منه أنه يقدم بذلك خدمة لأولياء الأمر وأصحاب النعمة. فأن تكون «مستشاراً للرئيس برتبة وزير» أمر يستحق أن تكتب مثل هذه المقالات، خاصة بعد أن كنت كاتباً فاشلاً، تقرع أبواب الصحف في بيروت، ترجوها أن تنشر لك مقالاً، ولو مرة في الشهر، بعد أن أصبحت على قارعة الطريق، في الحسابات السياسية والحزبية والصحفية.

ومشكلة اليسار مع نفسه، ومع هؤلاء، أنه كثيراً ما يتعالى على مثل هذه التفاهات، والترهات، والخزعبلات، ولا يرى فيها ما يستحق الرد، معتقداً أن الشارع والرأي العام، يدركان تماماً حقيقة الأمور، ويدركان الموقع الذي يحتله اليسار في الخارطة السياسية الفلسطينية، ويدرك الدور الذي نذر له نفسه في المسيرة النضالية. مستنداً في ذلك إلى تيار عريض من المثقفين الذين يرفضون الإنتظار على قارعة الطريق، ويدعون بل ويلحون لضرورة توفير إطار سياسي مناسب، ينظم هذه الحالة الواسعة والكبرى من أبناء اليسار، داخل فصائلها وخارجها، في تيار سياسي ناشط، لا ليعيد تقديم اليسار الفلسطيني الجديد إلى الرأي العام، فحسب بل وأيضاً ليعيد تنظيم الدور الفاعل لهذا اليسار وبما يزخمه ويعزز تأثيره، ويفتح الباب لإستقطابات واسعة للرأي العام الوطني، في الميدان، في مجالات النضال الوطني، والنضال الإجتماعي، أيضاً.

ولعل الخطوة المهمة في بناء «التجمع الديمقراطي الفلسطيني»، من الفعاليات المجتمعية، من مثقفين وناشطين، وشخصيات وطنية مستقلة ومؤسسات أهلية، إلى جانب القوى الخمس: الجبهة الديمقراطية، والشعبية، وحزب الشعب، وفدا، والمبادرة، تشكل إستجابة لمثل هذا النداء، وتلبية لمثل تلك الرغبة، وخطوة مهمة، تحتاج بالضرورة إلى الإحتضان والرعاية، والأناة، وطول البال، وسعة الصدر، والقدرة على الإبداع، لتقلع في سماء الفعل والتأثير والنجاح.

(3)

هل يحتاج اليسار الفلسطيني الجديد [ الجبهة الديمقراطية نموذجاً] أن يدافع عن نفسه أمام حملات التشويه والأكاذيب والتزوير؟ لا نعتقد ذلك. ومع هذا، ولإحياء ذاكرة الذين خانتهم الذاكرة، ولوضع النقاط على الحروف، للذين لا يجيدون ذلك، لا بد من بعض الوقائع التي من شأنها أن تعيد الوعي لمن فقد عيه، أو أنه يتظاهر بأنه بات بلا وعي.

في السياسة:

سيبقى التاريخ يسجل لليسار الجديد [ للجبهة الديمقراطية تحديداً] أنه هو من أبدع البرنامج الوطني بشعاره الذي تحول أيقونة لدى مجموع الشعب الفلسطيني: «العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة»، وأنه هو البرنامج الذي أعاد توحيد الشعب الفلسطيني في مناطقه كافة، عبر إعادة توحيد حقوقه، وأنه هو الذي رسم عناوين النضال في الدوائر الثلاث: دائرة الـ 48، ودائرة المناطق المحتلة، ودائرة الشتات. وأنه هو الذي قدم م.ت.ف. ممثلاً شرعياً

وحيداً للشعب الفلسطيني إلى العالم، وأنه قطع الطريق على كافة المشاريع البديلة، التي حاولت القفز عن الكيانية الوطنية الفلسطينية، لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، عبر إحياء سياسات الإلحاق والضم والتذويب ومحو الشخصية الفلسطينية. وأنه هو الذي هو الذي شكل الرد على الإحتلال وأصبح سلاحاً بيد الإنتفاضة الأولى، ومنه اشتق المجلس الوطني منه إعلان الإستقلال وبرنامجه، وإليه لجأ بعض أهالي أوسلو، مرة أخرى بعد فشلت مفاوضات كامب ديفيد 2000، وإليه وإلى مرفأه الآمن عادت المسيرة الوطنية، في قرارات المجالس المركزية والوطنية، بعدما إعلان إفلاس أوسلو، وطي صفحته، والعودة إلى البرنامج الوطني، برنامج «العودة وتقرير المصيروالدولة المستقلة».

(4)

وفي السياسة أيضاً:

اليسار الجديد [الجبهة الديمقراطية] هو من قدم الحل للخروج من مأزق أوسلو، إذ لم يكتفِ بإدانة الإتفاق وتشريحه، وعرض مخاطرة [ وهذا ما قام به اليسار الجديد بكفاءة مميزة، لم يجاره بها طرف آخر] بل وقدم كذلك حلوله «لتجاوز» أوسلو، و«القفز» عن أوسلو، آخذاً بالإعتبار موازين القوى، وكلما مالت موازين القوى لصالح معارضة إتفاق أوسلو [بعد أن لقي ترحيباً مفتعلاً ومدروساً جرى التحضير له مطولاً] كلما ذهب الشعار ضد أوسلو خطوة إلى الأمام، إلى أن اكتملت الدوائر وبات الحديث واضحاً وصريحاً، ولا لبس فيه من ضرورة طي صفحة أوسلو والعودة إلى رحاب البرنامج الوطني. من أبرز المحطات التي صنعها اليسار الجديد، محطة أيار 1998، حين دعا القيادة الرسمية إلى التحضير لمواجهة إستحقاق نهاية ولاية أوسلو، [في أيار 1999] بإعلان بسط سيادة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي المحتلة بعدوان حزيران 67، لنقل الصراع من مفاوضات تحت سقف أوسلو، إلى صيغة جديدة، حرب تحرير واستعادة سيادة الدولة من براثن الإحتلال الإسرائيلي، حرب الإستقلال. مازال هذا الخيار مدرجاً على جدول أعمال الحركة الوطنية كأحد الخيارات الكبرى والإستحقاقات التاريخية لما بعد أوسلو وإلتزاماته واستحقاقاته.

(5)

في صون الموقع السياسي والتمثيلي لمنظمة التحرير وإصلاح مؤسساتها

من حق اليسار الجديد [الجبهة الديمقراطية] أن يفاخر أنه منذ اللحظة الأولى لإنطلاقته، أكد تمسكه بمنظمة التحرير الفلسطينية بإعتبارها الجبهة الوطنية المتحدة للشعب الفلسطيني وقواه السياسية، إنطلاقاً من كونه يخوض حربه الوطنية للخلاص من الإحتلال والإستيطان، وبناء كيانه الوطني المستقل، الأمر الذي يتطلب وحدة الشعب، ووحدة قواه، خاصة وأن واقع الشعب الفلسطيني قام على التشتت والتشرذم والتفتت في العديد من الأقطار العربية والأجنبية إلى جانب المناطق المحتلة، ما يتطلب إيجاد إطار يوحد الشعب، ويوحد قواه، عبر توحيد برنامجه، وتوحيد حقوقه، ورسم الآليات النضالية، لكل تجمع ولكل منطقة، وفقاً لخصوصياتها السياسية والقانونية والإجتماعية.

ومنذ اليوم الأول لنيله عضوية م.ت.ف، واليسار الفلسطيني الجديد (الجبهة الديمقراطية) يناضل من أجل إصلاح أوضاع المؤسسة الوطنية الفلسطينية، لتقوم على أسس ديمقراطية، تتسع في تمثيلها لكل مكونات الحالة الوطنية الفلسطينية دون إقصاء، ولتضع أساساً للشراكة الوطنية في صياغة القرار الوطني، دون تفرد أو إستفراد، ودون تهميش للآخرين. ومنذ العام 1972، تحديداً، قدم اليسار الفلسطيني الجديد (الجبهة الديمقراطية) مشروعه لإعادة بناء المؤسسات وفق نظام التمثيل النسبي، (في الوقت الذي كانت فيه الفصائل تتدارس، برعاية مركز التخطيط الفلسطيني، برئاسة نبيل شعث (آنذاك) صياغة مشاريع توحيد الأجهزة والقوات العسكرية والمنظمات الشعبية الفلسطينية في أطر موحدة في م.ت.ف) وطورت مفاهيم وتعابير وآليات نظام التمثيل النسبي، من صيغته الأولى، التي كانت تتناسب مع واقع تلك الأيام، إلى صيغته الحالية، القائمة على الإنتخابات الحرة والشفافة والنزيهة، بديلاً لأنظمة الكوتا، وتوزيع الحصص بشكل عشوائي. وناضل اليسار الجديد (الجبهة الديمقراطية) لتخفيض نسبة الحسم في الإنتخابات لتصبح 1.5%، بحيث يتاح لأوسع مكونات الحالة الوطنية الإنخراط في المؤسسة الوطنية، تلبية لشروط حركات التحرر، القائمة على مفاهيم وقيم الوحدة الوطنية، على أسس ديمقراطية، بديلاً للوحدة الوطنية المشوهة القائمة على الإلحاق والتبعية، والقائمة على نظام النصف + 1، والتي ألحقت بها الإنتخابات التشريعية في الضفة والقطاع عام 2006 هزيمة نكراء. وقد أدرك آنذاك، الذين لحقت بهم هزيمة 2006، أهمية وقيمة وجدوى التمثيل النسبي، فعادوا إليه يطلبونه نظاماً لكل الإنتخابات، بعد أن عارضوه مطولاً لمصالح فئوية وفردية بائسة.

(6)

في قضايا الوحدة الوطنية

ولعل أفضل تعبير عن إدراك اليسار الفلسطيني الجديد (الجبهة الديمقراطية) لضرورة الوحدة الوطنية، كشرط موضوعي لمرحلة النضال، ومسيرة الفوز بالحقوق الوطنية وقوفه بجرأة في وجه الإنقسام منذ ساعته الأولى، داعياً إلى التراجع عنه فوراً، وإعادة الإعتبار للمؤسسة الفلسطينية الشرعية، وقد وصفت الجبهة الديمقراطية ما جرى، بوضوح ودون مواربة، «الإنقلاب العسكري» في مواصلة مواقفها المعروفة ضد الإنقلابات السياسية وأبرزها إنقلاب أوسلو الشهير. وظلت الجبهة تتمسك بموقفها في الوقت الذي انقسمت فيه الحالة الوطنية الفلسطينية لإتجاهين: الأول يبارك للإنقلاب فعله الدموي، ويؤيده علانية بإعتباره «عملاً يخدم المقاومة». والثاني يدعو للرد على الإنقلاب بسلسلة إنقلابات مضادة، لا هدف لها سوى تأييد الإنقسام وتكريسه، وتحويله إلى واقع جديد في تدمير المسيرة الوطنية.

اليوم، بات الكل يتباهى برفضه الإنقسام، ودعوته لإنهائه، ووضع حد له، وقد تجاهل الكثيرون أن هذه الدعوة، حين أطلقها اليسار الجديد (الجبهة الديمقراطية) كانت شديدة الكلفة، بينما هي اليوم باتت نغمة، تكشف المحطات المفصلية، كحوار موسكو الأخير، أنها مجرد نغمة ليس إلا.

وفي قضايا الوحدة الوطنية أيضاً.

حين تعرضت م.ت.ف، لإنقسامات وإنشقاقات، خاصة في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، وتوزعت القوى هنا وهناك، بين «جبهة إنقاذ» من جهة، «وإطار عمل مشترك» مع عمان من جهة أخرى، بقيت الجبهة

(اليسار الفلسطيني الجديد) تتمسك بوحدة م.ت.ف. وتعرضت لضغوط عربية وإقليمية وحتى أممية، لمغادرة موقعها لصالح أحد الخيارات البديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن نجحت، ومعها أطراف أخرى، سيحفظ لها التاريخ مكانتها ودورها، في إنهاء الإنشقاقات وإستعادة الوحدة الوطنية في نيسان (أبريل) 1987 في الجزائر، شكلت محطة ومقدمة لإنطلاقة الإنتفاضة الوطنية الكبرى نهاية العام نفسه.■

[في العدد القادم حلقة ثانية]

بقلم/ معتصم حمادة