فيما تتواصل وتتعمق وتتسع وتتنوع الأزمات التي يعاني منها الفلسطينيون دون أمل في اقتراب مرحلة تحقيق توافق وطني على إستراتيجية وطنية لمعالجة هذه الأزمات والتفرغ بالكامل وبالكل الوطني لمواجهة التحديات الإسرائيلية، تواصل إسرائيل سياساتها وإجراءاتها لتعميق هذه الأزمات. بطريقة أو بأخرى، وبحسن أو سوء نوايا لا فرق، تجد السلطة الوطنية وسلطة الأمر الواقع في غزة، كل بطريقتها، التعامل منفردة مع السياسة الإسرائيلية لمعالجة أزماتها. من موقع الدفاع عن الهوية الوطنية ومستلزماتها، ترفض السلطة الوطنية الخضوع لعملية القرصنة والابتزاز الإسرائيلي بشأن أموال المقاصة، وتتخذ سياسة شد الأحزمة على البطون والصمود، مع معرفتها بتكلفة هذه السياسة على قطاع الموظفين وإلى حد كبير على المجتمع والاقتصاد، الأمر الذي قد يستمر لبضعة أشهر على الأقل.
بعيداً عن السلطة الوطنية، وبمعزل عن أي دور لها، تسعى حركة "حماس"، والفصائل الفلسطينية في غزة إلى التوصل لتفاهمات مع إسرائيل عبر الوسيط المصري، الذي عاود نشاطه، لمبادلة الهدوء على حدود القطاع بجملة من التسهيلات التي تقع تحت عنوان كسر الحصار بما يخفف الأزمات التي تضرب القطاع. إسرائيل تواصل التعامل مع الطرفين الفلسطينيين كل بطريقة مختلفة وكأنهما كيانان منفصلان، وفي اتجاه لتحقيق هدف إضعاف الطرفين، وإدامة الانقسام، وصولاً إلى ظروف تسمح بتطبيق "صفقة القرن" وفق الفهم الإسرائيلي، الذي قد لا يتطابق تماماً مع الفهم الأميركي.
يعتقد البعض أن إسرائيل التي تتحضر لانتخابات عامة مبكرة، مقيدة مواطنيها. أما تعبير الديمقراطية، فإنه يعني وفق نتنياهو أن الدولة اليهودية تحترم الحقوق الشخصية وليس القومية بطبيعة الحال لجميع مواطنيها من اليهود وغير اليهود على حد سواء.
ينطوي هذا التفسير لقانون القومية على رؤية عنصرية عميقة من شأنها ألا تبقي من الديمقراطية شيئاً، ولكنه ينطوي أيضاً على رؤية لسياسة إسرائيلية تنطوي على بعد "ترانسفيري" للفلسطينيين، والتعامل معهم كأفراد مقيمين، وفق شروط الحاجة والمصلحة الإسرائيلية.
يشمل هذا الفهم والتفسير ليس فقط الأقلية القومية الكبيرة لفلسطينيي الداخل، وإنما أيضاً الشعب الفلسطيني في القدس والضفة المحتلتين، على اعتبار أن إسرائيل تتصرف في القدس باعتبارها العاصمة الأبدية الموحدة لها، وأن أجزاء كبيرة من الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة". هذه الرؤية لزعيم التيار اليميني المتطرف، تفسر اعتماد الحكومة، بكل أدواتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية، لكل أشكال وأساليب العنف المتصاعد في القدس والضفة الغربية، والتكالب الإسرائيلي الاستيطاني على الأراضي والمياه وثروات الفلسطينيين.
والسؤال هو: هل يمكن للفلسطينيين أن يستمروا في انقساماتهم وصراعاتهم إلى مزيد من الوقت الذي يضيعونه، وتستثمره إسرائيل دون تأجيل أو تردّد؟
"حماس" والفصائل عالقة، فلقد سبق لها أن اختبرت التفاهمات التي سبق أن توصل إليها الوفد الأمني المصري مع إسرائيل، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال؛ إذ لم تلتزم إسرائيل بتلك التفاهمات. إذاً فإن الفصائل في غزة، لا تستطيع القبول بتهدئة مجانية ولا هي في وارد التصعيد بما يعطي نتنياهو وحكومته المبرر، لتصعيد واسع.
لقد تضمن خطاب نتنياهو الافتتاحي للجلسة الأسبوعية لحكومته، صباح أمس، رسالتين خطيرتين: واحدة لغزة وقد مررنا عليها، والثانية للشعب الفلسطيني عامة وفي الضفة والقدس، ومواطني إسرائيل من الفلسطينيين خاصة.
عنوان الرسالة لغزة، أن إسرائيل ستعمل كل ما ينبغي لإعادة الأمن والهدوء إلى محيط غزة، وإلى الجنوب بشكل عام.
أما عنوان الرسالة الموجهة للشعب الفلسطيني داخل حدود فلسطين التاريخية، بعد شطب غزة منها، فهي أن إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، ما يعني أنها الدولة القومية للشعب اليهودي وهي له فقط، على حد تعبير نتنياهو.
في شرحه لأبعاد ذلك، فإن تعبير يهودية، هو أن الدولة هي فقط لليهود باعتبار أن الشعوب الأخرى كما يقول هناك تمثيل وطني لها في دول أخرى، وأن الدولة اليهودية ليست دولة لكل الأيدي، إزاء التوتر الحاصل منذ عام على حدود القطاع، وأنها أي إسرائيل قد لا يفيدها التصعيد مع القطاع.
حين نتحدث عن إسرائيل، نتحدث عن الليكود وبنيامين نتنياهو وحساباته إزاء مستقبله السياسي، وفق مواصفات نتنياهو الشخصية والذاتية، ورؤيته السياسية المتطرفة، فإنه مستعد لركوب أي مغامرة، من أجل الاحتفاظ بدوره ووظيفته كرئيس للحكومة القادمة، ولذلك فإنه قد يغادر سياسة البحث عن التهدئة مدفوعة الثمن مع قطاع غزة، تلك السياسة التي جلبت له المزيد من الانتقادات السياسية والشعبية.
وعلى الرغم من تفاؤل بعض الناطقين من فصائل المقاومة بأن الجهد الذي قام به الوفد الأمني المصري قد أثمر التوصل إلى تفاهمات معقولة، إلا أن أحداً لا يمكنه الوثوق بنتنياهو وحكومته. تنقل صحيفة "الأخبار" اللبنانية عن الوفد الأمني المصري أنه أبلغ "حماس"، بأن المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية تخشى من أن يؤدي تطبيق التفاهمات حول التهدئة، إلى تأثير سلبي على حظوظ رئيس الحكومة في الانتخابات.
وعملياً، فإن رسائل التهديد شديدة اللهجة التي نقلها الوفد الأمني المصري عن نتنياهو، لم تعد رسائل شفوية ونظرية، فلقد واظبت إسرائيل على شن غارات جوية على عديد من مواقع حركة "حماس" خلال الأسبوع المنصرم.
بقلم/ طلال عوكل