لم تعد الامبريالية بحاجة أبدا لقنابلها النووية في حربها على الشعوب الفقيرة والمستضعفة وان هي تبدو كمهتمة بمنع غيرها من امتلاك تلك الأسلحة فيعود ذلك فقط لخشيتها من أن تستخدم تلك الأسلحة يوما من طائش أو يائس في لحظة لا تملك السيطرة عليها أو في حربها غير المستبعدة فيما بينها.
لقد قرأت ذات يوم عن معتقل للأسر تنطبق عليه كل المواصفات الدولية لمعتقلات الأسرى والأكثر من ذلك أن هذا المعتقل كان يمكن للأسرى الهرب منه بسبب ضعف الإجراءات الأمنية المتعمدة إلا أن أحدا لم يحاول الهرب وكانت قد أقامته كوريا للجنود الأمريكيين الأسرى قتل فيه ألف جندي أمريكي دون رصاصة واحدة وقد مات فيه الجنود بشكل طبيعي دون أي تعذيب أو رصاص أو غيره وقد قام المحلل النفسي الجنرال الأمريكي وليام ماير بدراسة ظاهرة موت هؤلاء الجنود الغريبة وقد خلص في دراسته إلى النتائج التالية:
1- كانت الأخبار السيئة هي التي يتم إيصالها فقط إلى مسامع الأسرى
2- كان السجانون يأمرون السجناء بان يرووا على الملأ إحدى ذكرياتهم السيئة حول خيانتهم أو خذلانهم لأحد أصدقائهم أو معارفهم
3- كل من يتجسس على زملائه في السجن يعطى سيجارة كمكافأة ولم تتم معاقبة من خالف وعلم السجانون بالمخالفة عن طريق وشاية زميله مما شجع الأسرى على التجسس على زملائهم.
وقد تبين من التحقيق ان هذه التقنيات الثلاث كانت السبب في تحطيم نفسيات الجنود الأسرى وتدفع بهم لفقدان الأمل بالنجاة والتحرر وفقدانهم لاحترامهم لأنفسهم وغيرهم مما أوصلهم لحالة من عدم الرغبة بمواصلة الحياة وصولا إلى ما يسمى بعلم النفس الموت الصامت.
الذي جرى في معسكر الاعتقال هذا كان أبشع استخدام للميديا والخبز في السيطرة على الأسرى وامتلاك القدرة على التخلص منهم دون دم ويعرف الأسرى الفلسطينيين أن إدارة المعتقلات الصهيونية استخدمت أنماطا مشابهة لهذا النمط في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين منذ البداية ولا زالت ولذلك تحرص على السيطرة على كل أدوات تواصل الأسير مع العالم الخارجي وفي البدايات كانت وسائل الاتصال محدودة جدا فكان راديو الاحتلال هو الراديو المتاح الوحيد وجريدة الاحتلال " الأنباء " وما ينقله السجانون للأسرى وما يبثه أعوان الإدارة والمخابرات من الخونة وقد حرصت سلطات الاحتلال على إبراز ظاهرة الخيانة جيدا في أوساط الأسرى أولا ومن ثم في أوساط الشعب فأقامت غرفا للعار أو للعصافير كما كانت تسمى وفعلت ذلك أيضا في أوساط الشعب حين أقامت ما كان يسمى بروابط القرى وقبل ذلك أقامت قرى محمية كانت معروفة أنها قرى للعملاء المطاردين من الثورة والشعب في القطاع والضفة الغربية ونحن نعرف جيدا ان لا داعي اليوم لمعتقلات اسر وسجون لممارسة جريمة القتل الصامت تلك فهم يدخلون مخادعنا عبر وسائط ووسائل السوشيال ميديا والاتصال والتواصل عبر ما يسمى بشبكات التواصل الاجتماعي المسيطر عليها كليا من قبلهم فهم يمررون ما يريدون ويمنعون ما لا يريدون.
بكل وضوح يسعى الأعداء الامبرياليين والصهاينة إلى الوصول بشعبنا إلى حالة من اليأس والإحباط وكراهية الذات درجة يصل فيها الفرد حد التخلص من ذاته بأشكال مختلفة بما فيها الانتحار بأشكال وأشكال مختلفة أو التنكر للذات الجماعية والهرب منها بالعزلة أو الهجرة أو السلبية المفرطة بما يسهل تحييد أوسع القطاعات الفاعلة من الشعب وقواه ودفعهم لموقف سلبي على اقل تقدير أو الشعور المفرط بالقرف من الذات وعدم احترامها حد الاستسلام للموت الصامت جسدا أو روحا وفكرا وحضور.
وسائل الإعلام المختلفة والسوشيال ميديا اليوم جميعها تقريبا بأيدي قوى الاحتلال والامبريالية وأعوانهم و وسطائهم والدائرين في فلكهم أو الخائفين من فتكهم ويكفي أن نعرف أن الشركات الرئيسية المتحكمة بوسائل وبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي وأضخم شركات الإعلام تحركها قوى الامبريالية والصهيونية وتملك حق القرار فيها وفي سياستها وهناك إمبراطوريات إعلامية عربية وغربية تركز في كل برامجها على السلبي والاختلاف بل والبعض منها يعطي مساحة لرأي الأعداء أكثر مما يفعل للأصدقاء رغم أن الشكل الخارجي يبدو وكأنه يقف إلى جانب الشعب بأشكال غريبة وعجيبة في حين يركز على كل ما هو سلبي وعلى الصراعات ويغذيها بكل ما أوتي من قوة أو يكتفي بالتسحيج لأصحاب السلطة والدفاع عنهم أو تيأييس المتلقي من كل ما هو قادم وعلينا أن ندرك جيدا أن بعض الأحداث التي تمر بشكل تبدو معه طبيعية وتلقائية هي الأكثر استهدافا لعقولنا ومشاعرنا بما في ذلك استقبال رئيس وزراء دولة الاحتلال في دول عربية واستقبال وزراء والاجتماع بهم هنا وهناك ووفد زائر من هنا ووفد من هناك تارة للقدس للصلاة وتارة للرياضة وأخرى للثقافة وعزف نشيد الأعداء على ارض العرب, كل ذلك لا علاقة له بالصدفة لا من قريب ولا من بعيد.
آخر ألاعيب الامبريالية والصهيونية كانت حكاية صفقة القرن والتي أصبحت تشبه الحكاية الشهيرة عند العرب – حكاية إبريق الزيت – صانعة اليأس والعجز لدى المتلقي وصاحبة السلطة والتشفي والسيطرة لدى الراوي وما تفعله الإدارة الأمريكية والحركة الصهيونية وحلفائهم مع حكاية إبريق القرن أو العصر من تكرار وتسريبات لا تنتهي وبشكل يومي ولافت للأنظار دون أن تقدم حقيقة كاملة واحدة مترابطة سوى حقيقة شطب القدس واللاجئين والجولان وكأن ما يقي لنا سيكون معقولا علما بان الحقيقة أن اخطر ما قد يأتي في تلك الحبكة الغير مروية حتى الآن قد تم تنفيذه وان حالة الانتظار لن تأتي بشيء أبدا وهي فقط من صناعة الإعلام الامبريالي لحرف الأنظار عما يجري على الأرض لصالح الوهم المنتظر.
إنهم يطعمون عقلنا ... إنهم يصادرون خبزنا, فيقدمون لنا وجبات إعلام لترويج ثقافة بائسة تسعى للتيأييس والإحباط وتعظيم دور الأعداء بالمقابل كما حصل مع حكاية استعادة رفات الجندي والجاسوس كوهين ومساعدة روسيا بما يضمن لهم الشعور بفقدان الأصدقاء والعزلة وصولا لعدم احترام الذات واليأس من الغد عبر الانقسام والصراعات الداخلية ليس الفلسطينية فقط بل والعربية أيضا وبالمقابل سعوا إلى تجويع الشعب ليس الفلسطيني وحسب بل والعربي وفي فلسطين بشقيها الناقصين المتنازعين غزة المحاصرة والمجوعة والضفة التي تقف على أبواب الجوع على عتبات إعلان صفقة الإبريق تلك مما سيعني لدى عموم الشعب أن الأكل أولا فهو يائس من ذاته وصراعاته وانقساماته وخلافاته مقابل عدو قوي متماسك ينتصر عليه ويتفوق عليه وهو في نفس الوقت جائع يحتاج الخبز قبل الحرية وفي حالة من الضعف وغياب القدرة على الصمود والرغبة الداخلية بهذا الصمود عبر الإحساس بان لا أمل.
كل وسائل ووسائط الإعلام والتواصل العالمية بما في ذلك العربية والمحلية أصبح لها مصادر مطلعة تعطيها معلومات عن صفقة إبريق الزيت تلك ولشكل يصل أحيانا حد التناقض فيما بينها وتتواصل التصريحات الغامضة واللافتة للانتباه في آن معا من ترامب وإدارته ونتنياهو وأعوانه بكلمات مبهمة عن الصفقة لا تغني ولا تسمن من جوع المواطن الفلسطيني المنشغل بقوت يومه وبعدد الأرغفة وعدد ساعات الكهرباء والعلاج والسفر والدراسة والعمل فكل ما حوله يضيق الخناق عليه ولا يفتح أمامه إلا بوابة واحدة من الوهم المنتظر وهو ما ستقدمه صفقة إبريق الزيت الترامبي الفارغ وهذا يعني أنهم يحضرون مواطننا بشكل متعمد وعبر عمل مبرمج جيدا ودءوب لكي لا يتبقى له أية إمكانية ليعرف كيف يقول لا لجريمة العصر والتي لن تطال الفلسطيني وحده بل والعربي والإنسان أينما وجد ومن السذاجة الاعتقاد بان ترامب هو صاحب هذه الأفكار وأنها وليدة إدارته ووصوله للبيت الأبيض فالحقيقة التي علينا أن ندركها أن ما يجري هو جزء بسيط من سلسلة السعي الامبريالي للسيطرة على العالم أجمع وليس فلسطين والوطن العربي فقط وإذا لم نصحو من وهم البحث عن حلفاء والانتصار بالآخرين أيا كانوا فلن تقوم لنا قائمة ولا بديل أبدا لنا كفلسطينيين وعرب بل وكل الشعوب المضطهدة وأحرار الأرض جميعا إلا التوحد معا بالوصول للحظة العصيان البشري والتوقف عن القيام بدور الخدم لصالح حفنة مجرمة من المستغولين الامبرياليين الذين ينهبون خيرات الأرض ويقتلون ناسها بكل الأشكال بما فيها قتل العقل لصالح ملأ المعدة ومواصلة عيش البهائم.
بقلم/ عدنان الصباح