الموضوع الوحيد الذي بات مسيطراً هو الخلطة السياسية التي أعدتها إدارة الرئيس ترامب بات من الواضح أن هدفها إغلاق الملف الفلسطيني، وهو ما يتوافق تماماً مع كل المخططات الإسرائيلية التي وضعت في مراكز الدراسات على امتداد عقود ماضية وانتظرت لحظة مجيء رئيس أميركي من خارج دوائر السياسة وخارج قراءة التاريخ الطويل للصراع على هذه الأرض لينفذ أجندة اليمين باندفاع أكثر حتى من كثير من الإسرائيليين أنفسهم.
كيف يقبل رئيس أميركي أن يبدو كأنه موظف تنفيذي صغير لدى بنيامين نتنياهو؟ تلك قصة أو نكتة ضحيتها البيت الأبيض وهيبة الدولة العظمى. ولكن بات من الواضح أن ما أعده الثلاثي فريدمان وغرينبلات وكوشنير تحت مسؤولية ترامب هو ما أراده نتنياهو، ليس فقط لأن هذا الثلاثي ينفذ قناعاته بتصفية وجودنا بل لأن العلاقة بين ترامب ونتنياهو في أعلى مستويات الغزل والتنسيق وفعلاً لا تسمح بأي خلاف بينهما، فهذا الأول يهدي الثاني الجولان قبل الانتخابات والثاني يهدي الأول تسمية مستوطنة.
المعارضة لصفقة القرن لا تحتاج الى توضيح بعد المقال السابق الذي نشر في «الأيام» الأحد الماضي والذي جرى فيه استعراض الفكر السياسي ومدرسة الدهاء الإسرائيلية، وتلك هي وظيفتنا ثم المطالبة بعدم الاكتفاء بـ «لا» دون برنامج، فالرفض هو القرار الطبيعي والذي جرى توضيحه في المقال بشكل واضح بأن كل الفلسطينيين يرفضون هذه الصفقة، بل وأكثر ما يتم تحضيره لا تقبل به حتى روابط القوى لو أعيد إحياؤها من جديد.
محاولات الإدارة الأميركية الاتصال بفلسطينيين معتقدة أنه يمكن لفلسطيني واحد أن يقبل بما ستقدمه بعد شهر رمضان كما قال كوشنير، فتلك محاولات كانت ترافق التاريخ الفلسطيني وفشلت جميعها في إيجاد قيادات تابعة، لأن هناك شعباً قد يقبل أن يختلف الفلسطينيون على السلطة ولا يتحرك، قد يقبل بفساد ولكن أن يقبل بتصفية قضيته فتلك لم تنجح ولن تنجح، فالشعب حارس أمين لحقوقه الوطنية ولا يقبل التفريط بها.
لقد جرت الإشارة في المقال السابق والذي فهمه بعض الأصدقاء بشكل مختلف حين جرى التركيز على السياسة الإسرائيلية التي تقدم شيئاً هزيلاً كعادتها يرفضه الفلسطينيون لتستغل هذا الرفض لاستكمال مشاريعها، والإشارة الى ذوبان السياسة الأميركية التقليدية وفقدانها لهويتها لصالح السياسة الإسرائيلية، وكعادتهم سيقدمون شيئاً خائباً في صفقة القرن بالقطع مرفوض فلسطينياً من الجميع أحزاباً وقوى ومؤسسات وتيارات وكتاباً ومفكرين، وبعد ذلك ستفعل إسرائيل ما تشاء في الضفة بحجة أنها قدمت مرونة أو قلبت كل حجر من أجل السلام لكن الفلسطينيين هم من رفض.
لقد جرت المطالبة بتحويل الـ (لا) التلقائية بالمعنى الوطني الى برنامج عمل لا يقف عند الموقف بل يتحول هذا الموقف الى خطة تتصدى. فالمسألة هنا تمس الخطوط الحمراء وطنياً، وليس هناك متسع لتسجيل مواقف واستعراض بقدر ما هي مسؤولية وطنية وارث سلمته أجيال قاتلت منذ مائة عام، حتى يستكمل هذا الجيل تحرير الوطن واقامة الدولة، وقد دفع الشعب الفلسطيني غالياً على امتداد تاريخه من أجل صيانة حقوقه المستهدفة الآن.
الحقيقة التي علينا الاعتراف بها وأفكر مثل الكثيرين المطلوب منهم تقديم رؤى أن البحث عن مخارج في ظل الواقع القائم يبدو في غاية الصعوبة، بل تكاد تكون منعدمة، وهي أشبه بحلول ترقيعيه لن تتمكن من مواجهة الخطر القادم، والأكثر أن المعادلة القائمة لا تسمح بأي تغيير في إطارها، والدليل أنه منذ أربع سنوات تجتمع المؤسسة الفلسطينية وتحديداً المجلس المركزي للمنظمة ويتخذ القرارات ثم يكتشف أن الواقع لا يسمح بتطبيقها.
لماذا؟ ببساطة شديدة لأن حكم الفلسطيني لنفسه وتحكم الإسرائيلي بإمكانيات هذا الحكم واستمراره أو إفشاله، وفي ظل المنافسة الداخلية الشديدة التي يخاف كل طرف فيها من الآخر تتداخل كل العوامل للحفاظ على الوضع الراهن، أي وضع الحكم الفلسطيني فيما الإسرائيلي يتقدم على الأرض بمشروعه الى الدرجة التي أفقنا فيها على ما يشبه التصفية.
اذا لم نعترف بهذا ونعترف بأن حكم الفلسطيني لنفسه تحت الاحتلال كان الكمين الأبرز الذي وقع فيه الفلسطيني، واذا لم نعترف أن هذا الوضع فتح منذ اليوم الأول على مقايضات لم تكن في صالح استمرار الكفاح، بل كلف الفلسطيني نفسه بتبريد الصراع الى أبعد الحدود مقابل الحكم، وتلك لم تحدث عبر التاريخ وأن أية محاولة لإنقاذ الوضع الراهن في ظل المعادلة القائمة هي محاولات لن يكتب لها النجاح والتجربة خلفنا.
اذاً علينا التفكير بحلول جراحية أبعد من المعتاد والمجرَّب والذي لم يحل الأزمة بل زاد في إغراقنا لنصحو على صفقة القرن. والحل ربما يكمن بإنهاء تجربة الحكم تحت سلطة إسرائيل وترك الأخيرة تواجه شعباً وجهاً لوجه، سواء بالمعنى الحياتي أو العبء الديمغرافي أو الأمني. فما فعلناه نحن بتجربة السلطة والتي انزلقت اليها قوى كانت معارضة لأوسلو أننا أعفينا الاحتلال من المسؤولية الحياتية والإنسانية وقللنا من شبح التهديد الديمغرافي، وكلفنا أنفسنا بتخفيف وطأة التهديد الأمني وتبرير الاشتباك فهل يعقل هذا؟ في البدايات كان الأمر مفهوماً لمرحلة انتقالية تفضي لدولة، ولكن بعد تحويل الأمر الى شيء ثابت دون إقامة الدولة كان علينا أن نعيد النظر بكل الأشياء وبضمنها السلطة.
قد يطرح سؤال لأن إسرائيل لم تعد تريد السلطة بالضفة وكل ما يهمها هو غزة وهي تحت حكم حماس ولن تقبل حماس بترك الحكم. هنا ستكون الأزمة الحقيقية، لأن المطلوب أولاً هو ترك الحكم بغزة وترك غزة بعفويتها دون أن يكون هناك طرف يقايض مقابل وقف الاشتباك. فحين تنحل السلطة بغزة ويتم صناعة أزمة انسانية وأمنية ستفلت على إسرائيل، وهذا ممتاز في ظل غياب طرف مسؤول وكل يشتبك على طريقته، وغزة قادرة على العمل وتلك حرفتها بدءا من الطريق السلمي وانتهاء بالصواريخ.
لن تحتمل إسرائيل الوضع إذا ما وجدت نفسها تصارع شعباً وتقاتل كل فلسطيني على حدة، لأن مأسسة العمل تحت أعين إسرائيل جعل لنا من تراجعه ان حدث خرق لأمنها وهو بدوره يتكفل بلجم هذا الخرق، تلك هي المعادلة ببساطة.
علينا كسر هذه المعادلة وحينها على إسرائيل أن تبحث عن حل وليس نحن كما يحدث حالياً، فإما أن تكون مفاوضات جدية لإقامة دولة وفي هذا ما ينسف صفقة القرن، واما أن تحتل غزة ويعود الصراع الى بداياته قبل تجربة تشكل السلطة والحكم لنبدأ من جديد قبل أن نخطئ الخطأ الأكبر، وفي هذا ما يقلب الطاولة أمام صفقة القرن، أما دون ذلك فلن يكون أكثر من جمل إنشائية وتبرئة ذمم .!!!
بقلم/ أكرم عطا الله