تقييم الجولة الاخيرة من العدوان على غزة من قبل الاحتلال، يتسدعي فهم السياق التاريخي لما يحصل على الواقع، فتاريخيا اينما وجد احتلال وجدت مقاومة له، وكانت المقاومة تدفع ثمن غال جدا لقاء محاولة نزع حريتها من حلوق أعدائها، وتنجح بعد طول عناء.
ما حصل هو ان الاحتلال وبسبب شعوره بالقوة والدعم الامريكي الكبير وحال العرب المخجل الحالي من فتن واقتتال داخلي ومحاولة واد الربيع العربي بالثورة المضادة، ان لا حاجة للالتزام بالتفاهمات التي جرت قبل انتخاب "نتنياهو"، ومن هنا حصلت الجولة التي أثرت وضرب في مجالات سياسية عديدة .
اولى خسارة الاحتلال السياسية، هو تآكل سياسة الردع الى غير رجعة، فهدم المنازل واغتيال عناصر المقاومة لم يثني المقاومة عن المواصلة في اطلاق الصواريخ بكثافة، وهدم عمارات سكنية هو مؤشر لافلاس الاحتلال، وقتل اطفال رضع دليل فشل وحقد واجرام، لا مثيل له في العصر الحالي.
توقيت المقاومة كان جيدا، حيث أجواء الاحتلال كانت ضاغطه، وهي أجواء الاحتفال بما يسمى بـ "عيد الاستقلال" ؛ وأجواء تحسين صورة الاحتلال من خلال تنظيم المهرجان الموسيقي العالمي "اليوروفيجين" في تل أبيب الأسبوع القادم، سيما وأن الوفود المشاركة فيه شرعت بالوصول، ومعها آلاف السياح الأجانب، فما هو التصور والانطباع الذي سينقله السواح او المطربين، او حتى قرابة 600 مليون من المتوقع ان يشاهدوا "اليوروفيجين".
مقارنة بالجولات والحروب السابقة فان المقاومة تقدمت كثيرا هذه المرة عن سابقاتها، فاطلاق الصواريخ كان بكثافة عالية جدا غير مسبوقة وباعتراف الاحتلال، وبالتالي هزت امن الاحتلال ، عدا عن قتل المدنيين والاطفال الرضع هز صورة الاحتلال لدى الغرب.
الضعيف المهزوز يلجأ دوما في الحروب والجولات الى استهداف المدنيين العزل للضغط على الجبهة الداخلية لمن هو في الجبهة الاخرى المضادة، وهو ما جرى مع الاحتلال الذي راح يقصف مدنيين وعمارات سكنية.
كل دقيقة عمل في دولة الاحتلال تختلف عن غزة، فغزة غارقة ولا تخشى البلل، بينما الاحتلال قائم على التصنيع وتحسين صورته في الخارج بانه واحة من الامن والامان، وفي هذه الجولة فقد الاحتلال الاثنتين، وتكبد خسائر جسيمة في مجالات اخرى مثل عدد القتلى والذي في كل حرب وجولة يخفي العدد الحقيق للقتلى، وهو لن يعلن عنها اصلا من باب الحرب النفسية التي هي أساس كل نصر.
الجولة الاخيرة احرجت دول العرب المنبطحة للاحتلال، فغزة قالت للعرب والمحيط: انظروا ما اضعف دولة الاحتلال، مجرد صواريخ صناعة محلية في غزة، تهز الاحتلال وتجعله ينام في الملاجئ، ويسارع لطلب تهدئة والالتزام بالتفاهمات السابقة، فهو ليس بالقوة التي يزعمها ويعربد فيها على العرب والمسلمين.
تأمل معي تصرحيات "شتاينيتس"، وهو عضو الكابينت المصغر، ووزير الاستخبارات السابق لدى الاحتلال، والتي يقول فيها بان الاحتلال سيبقى يعاني من غزة ل 30 عام قادم، وان غزة لن تغرق في البرح كما حلم رابين.
في الوقت الذي فيه غزة محاصرة ومخنوقة من شدة الحصار، تتحدى الاحتلال الذي يخشاه ملوك وحكام العرب، وتطلق مئات الصواريخ على الاحتلال، ولا تنجح تقنية الاحتلال التي يزعم انها متقدمة في اعتراضها، ومن هنا نقول: ان من جد وجد، ومن لم يجد، ولم يشمر عن ذراعيه ويقرأ سنن التاريخ جيدا، فانه يبقى مهزوم، ويبقى صاروخ واحد ينطلق من غزة، في "الحياة مقاومة"، أفضل من مليون جولة تفاوض في "الحياة مفاوضات".
بقلم/ د. خالد معالي