أغلب التحليلات العسكرية والسياسية والإعلامية والصحفية منها اسرائيلية وفلسطينية وعربية وعالمية،تُجمع بأن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة،،كان اكثر من تصعيد وأقل من حرب،وأتى في ظروف تشهدها المنطقة تأخذ منحى تصعيدي أيضاً،حيث الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية على ايران دخلت حيز التنفيذ " التصفير" النفطي لصادرات ايران،وتصاعد العقوبات الإقتصادية والمالية الأمريكية على حزب الله اللبناني،فأميركا تعلن عن جوائز بالملاين من الدولارات،لكل من يدلي بمعلومات عن مصادر تمويل حزب الله،وكذلك على الجبهة السورية تجري الإستعدادات لفتح معركة إدلب وتصفية الجماعات الإرهابية وفي المقدمة منها "جبهة النصرة" ،في حين وجدنا بان نتنياهو يواجه مع حلفائه وشركائه من أحزاب اليمين واليمين المتطرف،إستعصاءات حول تشكيل الحكومة،موضوعة غزة واحدة من جوهر خلافاتها.
الجولة الجديدة من التصعيد،والتي جميعنا ندرك بعيدا ً عن " الفذلكات" الكلامية،انها كانت بمثابة مفاوضات تحت النار،فإسرائيل تريد أن تخلق قواعد اشتباك جديدة تهدئة مقابل تهدئة،وبالمقابل المقاومة الفلسطينية شعرت بان حكومة الإحتلال قد خدعتها في المرة السابقة،حيث كانت تريد وقف التصعيد والرد من المقاومة،لكي تتمكن من تجاوز وعبور العملية الإنتخابية للبرلمان الصهيوني " الكنيست" بأمن وسلام،حيث رفضت تطبيق ما جرى التوافق عليه من تفاهمات برعاية مصرية،من تخفيف للحصار المفروض على القطاع،وبما يشمل تحسين البنية التحتية وخدمات شبكات الكهرباء والمياه،وتوسيع مساحة الصيد،وإستمرار ادخال الوقود والأموال القطرية،ولذلك هي كانت معنية بالرد على العدوان الإسرائيلي،وطبيعة الرد للمقاومة الفلسطينية تميز هذه المرة بالقوة النارية الكبيرة والأكثر دقة ونوعية والأبعد مدى،والتي كانت تؤشر الى أن أي تصعيد اسرائيلي خطير سيقابله رد فلسطيني بضرب اهداف استراتيجية اقتصادية وعسكرية وامنية ،والضرب في العمق الإسرائيلي.
رغم قول وزير الدفاع الإسرائيلي كوخافي ورئيس جهاز الموساد أرغمان،بان ظروفاً سرية وخاصة،هي التي أجبرتهم على وقف العدوان،ولكن واضح بان توصيتهما للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر"الكابينت" بعدم تصعيد العمليات العسكرية على قطاع،هو نتاج تقديرات عسكرية،ترجح بان التصعيد،ليس فقط سيكشف مدى تآكل قدرة الردع الإسرائيلي،بل سيعري هذين الشخصين،واللذان كانا يزايدان على نتنياهو بانه متساهل تجاه قطاع غزة وفصائل المقاومة،وهذه التصعيد كذلك استمراره،سيؤدي الى تشققات وتصدعات في المجتمع الإسرائيلي،وخاصة بان اكثر من ثلث سكان غلاف غزة هربوا نحو الشمال.
لو استمر العدوان على قطاع غزة،فالمقاومة والشعب في القطاع،ليس لديهم ما يخسرونه،في حين اسرائيل خسائرها ستكون كبيرة،حيث ستشل تجارياً واقتصادياً وستتوقف حركة القطارات والمطارات والموانىء،وهذا يعني استمرار النزوح والهجرة العكسية لخارج لدولة الإحتلال،وأيضاً فهناك موعد مهرجان الأغنية الأوروبية" اليوروفيجين" في تل أبيب والذي كلف اسرائيل ملايين الدولارات،والمتوقع ان يشاهده اكثر من (600) مليون شخص،يضاف لذلك بان إحتفالات اسرائيل بذكرى " إستقلالها" قريبة جداً،ولذلك لا بد من قرار يوقف هذا التصعيد،هذا التصعيد الذي قال عنه نتنياهو،بأنه وجه ضربة قوية لحماس والجهاد الإسلامي وبقية فصائل المقاومة، سيستمر في المستقبل وعلى نحو اوسع واكبر،وكل من يقرأ او يفهم الف باء السياسة،يعرف تماماً بأن غزة ستكون امام تصعيد اكبر وأشمل،وخصوصاً بان تنفيذ ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية ،المشروع الأمريكي- الصهيوني ،الأوروبي الغربي بالتواطؤ والمشاركة من بعض اطراف النظام الرسمي العربي،لا تستقيم مع وجود قوى وفصائل مقاومة وسلطة معادية في قطاع غزة،واسرائيل لن تقبل بتعميم تجربة حزب الله اللبناني على ما تسميه حدودها الجنوبية،ولذلك لكي تمر صفقة القرن الأمريكية،فلا بد من القيام بعمل جراحي عسكري كبير،على شكل تصعيد كبير او حرب شاملة،تجتث قوى المقاومة وأسلحتها النوعية من ترسانة الصواريخ والراجمات،وتدمير الأنفاق، لكي تعبد الطريق أمام ما يسمى بصفقة القرن،صفقة القرن التي تصفي مرتكزات القضية الفلسطينية من قدس ولاجئين الى قبر حل الدولتين وضم المستوطنات كبيرة وصغيرة،وضم محدود لمناطق(سي) من الضفة الغربية،لكي يتحقق مشروع نتنياهو للسلام الإقتصادي،تحسين شروط وظروف حياة الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال بأموال عربية ودولية،وطبعاً دون أن تدفع أمريكا من جيبها دولاراً واحداً فالأصدقاء والحلفاء " الخيريين" من مشيخات النفط العربي،هم الملزمين بالدفع.
اسرائيل كانت ترفض ان يكون هناك علاقة بين معزل غزة مع ما يتبقى من معازل الضفة الغربية،وتريد تكريس الإنفصال بينهما،وكانت تطمح بان يتم ربط معازل الضفة مع الأردن،مع بقاء السيادة الإسرائيلية عليها،ولكن رفض الأردن لذلك،جعلها تفكر بإيجاد رابط ما بين معزل غزة مع معازل الضفة الغربية ،ولتحقيق هذا الغرض،فهي تدرك تماماً بأنه مع اقتراب موعد طرح صفقة القرن الأمريكية،المستجيبة لكل مطالبها، لا بد من كسر حلقة غزة،وتدمير قدرات قوى المقاومة فيها،ولذلك هي ستعمل مع امريكا لتحقيق هذا الهدف،عبر طريقين،الأول الإيعاز الى المشيخات الخليجية العربية النفطية بدفع الأموال الى سلطتي غزة ورام الله،لتعزيز مفهوم السلم الإقتصادي،بعيداً عن أية حقوق وطنية وسياسية،أي اعتماد سياسة التطويع عبر الإغراق بالمال والرخاء الإقتصادي ومقايضة ذلك بالحقوق الوطنية،ولذلك "بروفا" الدعم القطري (480) مليون دولار لمنع انهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية،وتعويضها عن الأموال المقتطعة من اموال المقاصة والتي تدفعها السلطة كرواتب للأسرى واهالي الشهداء،وفي القطاع إستمرار إدخال المنحة القطرية الشهرية لترتفع من 30مليون دولار الى 50 مليون دولار،وزيادة حجم الإستثمارات والمساعدات القطرية في قطاع غزة يندرج في هذا السياق.
اذا ما فشلت هذه الطريقة في تطويع سلطة حماس وقوى المقاومة في القطاع،فهذا يعني انه لا بد من كسر حلقة غزة اولاً،فهي التي تملك القوة والمقاومة والسلاح،وحلقة الضفة وسلطتها يجري التخلص منها بسهولة وإيجاد البديل، ولكن هل اسرائيل في تصعيد قادم او حرب قادمة قادرة على كسر حلقة المقاومة،بما يسمح بتمرير صفقة القرن من بوابة غزة..؟؟،وخصوصاً بان موازين القوى في المنطقة وترابط حلقات قوى محور المقاومة،وما يراكمه من انجازات وانتصارات،قد تلجم اسرائيل وحلفائها عن شن حرب شاملة على القطاع،وخاصة بان ما ستدفعه سيكون ثمناً باهظاً بشرياً واقتصادياً،وكذلك حالة الممانعة الشعبية الفلسطينية والشعبية العربية،ستشكل عامل ضاغط في رفض هذه الصفقة المستهدفة المنطقة العربية باكملها.
صحيح التصعيد قادم نحو غزة كما قال نتنياهو،ولكن وصول هذا التصعيد الى حالة حرب شاملة،قد يكلف اسرائيل ثمناً باهظاً،يزيد من تآكل قوة ردعها،ويجبرها على تقديم تنازلات سياسية اكبر حجماً.
بقلم/ راسم عبيدات
القدس المحتلة – فلسطين
7/5/2019