ثلاثون عاماً مرت على رحيلك يا سيد الشهداء، يا قاسم الفقراء والكادحين، يا قاسم الشعب، يا قاهر السجن والسجّان، فمن لم يتعلم في مدرسة الأسير عمر القاسم النضالية سيبقى يجهل ألاعيب الاحتلال وخداعه.
مَن لَم يَعرف الأسير الشهيد عمر القاسم، لا يعرف الحركة الوطنية الأسيرة … فهو علم من أعلامها ورمزٌ من رموزها، وأحد بُناتها الأساسيين وكان على الدوام عماداً أساسياً من أعمدتها الراسخة … فكان في حياته قائداً فذاً، ومناضلاً شرساً، وأسيراً شامخاً، ونموذجاً رائعاً، وفي مماته شهيداً خالداً و قنديلاً لن ينطفئ نوره .هكذا وصفه رفاقه في السجن وخارجه..
انتمى لفلسطين وللجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تعلم في مدارسها وتثقف بثقافتها، عرف بقيادته لنضالات الأسرى وكان واسع الثقافة ترك بصماته واضحة على أجيال من رفاقه اليساريين والقوميين حتى بعد استشهاده في الرابع من حزيران يونيو 1989 داخل سجون الاحتلال بعد أن أمضى 21 عاماً في سجون الاحتلال، لذا لقبه شعبه بـ«مانديلا فلسطين»، وأطلق عليه بين زملائه بالمعتقل شيخ الأسرى والمفكرين لتمتعه بقوة الفكر والإرادة، وعرف بالمفكر والمثقف، كما سُمي شارع النصر أحد الشوارع الرئيسة في مدينة غزة باسمه.
الشهيد الأسير عمر القاسم قاهر السجن والسجان متحدياً سجانيه في تأسيس اللبنة الأولى للحركة الوطنية الأسيرة واستطاع نشر فكره وثقافته النضالية في أروقة المعتقل. فهو «الرجل في الحياة والموت».
إن الأسرى في سجون الاحتلال يتذكرون كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم عايشوه مع رفيق دربهم الشهيد الأسير عمر القاسم، وهم يتذوقون مرارة السجن ويتحدون أساليب السجان القمعية في خوضهم الإضراب المفتوح عن الطعام، إضراب يلو الإضراب، إضراب ضد سياسة الاعتقال الإداري ومصادرة حقوق الأسرى، وآخر ضد سياسة الإهمال الطبي والعزل الانفرادي، وآخر ضد تركيب أجهزة مسرطنة في أقسام السجون.
الشهيد الأسير عمر القاسم ابن مدينة القدس المحتلة، تلك المدينة الأسطورة عبر الأجيال التي عرفت بتحديها لكل صور الإرهاب والتهويد والأسرلة بشموخ شعب فلسطين وقدس الأقداس.
انه عمر محمود القاسم ابن مدينة القدس القديمة ولد في حارة السعدية عام 1941 وترعرع ودرس الابتدائية في المدرسة العمرية القريبة من المسجد الأقصى وأنهى دراسته الثانوية عام 1958 في المدرسة الرشيدية ليعمل مدرساً في مدارس القدس ويدرس الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق بالانتساب في آن واحد، ليجعل من علمه نبراساً يزين مدينة القدس وفلسطين بأكملها. انضم إلى معسكرات الثورة الفلسطينية في مطلع شبابه بعد التحاقه بحركة القوميين العرب، ولكنه أراد العودة إلى وطنه بتاريخ 28/6/1968 بعد أن تدرب في دورات عسكرية وثورية خارج فلسطين، ليقود مجموعة عسكرية هادفاً الاشتباك مع العدو وجهاً لوجه للتمركز بمدينة رام الله، وأثناء اجتيازه لنهر الأردن اشتبك ومجموعته مع دورية إسرائيلية موقعين في صفوف الجنود الإسرائيلي قتلى وجرحى إلى أن تنتهي ذخيرتهم وتعتقل الخلية بما فيهم قائدها عمر القاسم.
فالشهيد القاسم عشق الوطن الواحد الذي لا يقبل القسمة بأرضه وترابه وشعبه، فعشقه للوطن ساهم بتحمله مرارة وقساوة السجن والسجّان دون استسلام أو تراجع بل أسس مدرسته النضالية الصحيحة بتعبئة الأسرى وإعدادهم داخل المعتقل، وشارك رفاقه وإخوانه في مواجهة كافة صور القمع الإسرائيلية في العديد من الإضرابات التي كان يقودها، وكان له الدور في تأسيس الحركة الوطنية الأسيرة، تلك الحركة الأسيرة التي خرّجت الأبطال القادة وصاغت وثيقة الوفاق الوطني «وثيقة الأسرى» في حزيران (يونيو) 2006.
انتخب في داخل سجنه عضواً للجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وعمد إلى إثراء الأسرى بنقاشات مفتوحة حول تطورات القضية الفلسطينية، البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية وأدبياتها الفكرية والسياسية والمادية التاريخية والمادية الديالكتيكية وتاريخ الفلسفة، وفي محطات سياسية كبرى كان يتوقف مطولاً لشرح وتحليل أبعادها وتحديداً أحداث أيلول عام 1970، وحرب تشرين 1973 والبرنامج المرحلي الذي تبنته م. ت. ف عام 1974. ولم يتوقف القاسم عند ذلك بل لجأ إلى دورات نظام الكادر التي استغرقت العام تقريباً تطرق فيها للحرب الشعبية والتجربة الفيتنامية والجزائرية، وتخرج منها مجموعة من الرفاق في موقع كادري، لينتقل فيما بعد للاهتمام بالأدب والشعر.
وعشية انعقاد الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، قاد الرفيق عمر القاسم في كافة السجون والمعتقلات النقاش السياسي من أجل صياغة المهام الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية في عصر الانتفاضة وساهم مساهمة رئيسية في توحيد المعتقلين على موقف سياسي موحد مطالباً الدورة 19 بإعلان قيام الدولة الفلسطينية وصياغة البرنامج الوطني الفلسطيني.
وقد ربط الرفيق القاسم بين مزاولة دوره السياسي الفكري وبين إصدار الصحف وممارسة الكتابة، وكان من المبادرين لإصدار الصحف داخل المعتقلات، وبعد أن أصبح لكل منظمة اعتقالية صحيفة، اقترح مشروع المجلة الموحدة، وقد نجح هذا المشروع في بعض الفترات وتراجع في فترات أخرى. وانصب اهتمامه في الكتابة على شؤون وأوضاع المعتقلين.
فقد كتب «34» موضوعاً شخص فيه تشخيصاً قيماً أوضاع المعتقلين وتناول المراحل التي مرت بها الحركة الأسيرة وتجارب الإضراب ودروسها، وسلوك المعتقلين من مختلف الجوانب. كان دائما يشجع المواهب الناشئة على الكتابة وخاصة لمجلة «الملحق الأدبي» التي تخرج منها عدد لا بأس به من الكتاب وكرس أيضاً وقتاً مهماً لتدريس اللغة الانجليزية بشكل خاص واللغتين العبرية والفرنسية بشكل عام وبعض الكتب الأكاديمية الأخرى بهدف رفع المستوى العلمي للمعتقلين.
كان له عدة مواقف شجاعة ومنها عندما اقتاده الاحتلال الإسرائيلي مع رفيق دربه «أنيس دولة» في طائرة مروحية لإقناع مجموعة مسلحة تابعة لمنظمة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي ينتمي إليها، قامت باحتلال مبنى واحتجاز رهائن بعملية «معالوت- ترشيحا» في 14 مايو 1974 بالجليل داخل أراضي الـ 1948، لوقف عمليتهم مقابل تخفيف الحكم عليهما، فما كان لعمر القاسم إلا أن أخذ الميكروفون مخاطبا منفذي العملية، «أيها الرفاق نفذوا ما جئتم من أجله فعدوكم غدار» فما كان من الفدائيين الأبطال إلا أن قاموا بتفجير المعسكر الذي استولوا عليه واحتجزوا فيه المئات من أبناء الشبيبة الإسرائيلية، فاستشهد الرفاق الثلاثة زياد ولينو وحربي وسقط المئات من الإسرائيليين ما بين قتيل وجريح، وعلى أثر ذلك مارست دولة الاحتلال كافة أنواع التعذيب ضد القاسم ورفضوا بعدها إخلاء سبيله في صفقة تبادل الأسرى في العام 1985 .
وقد أرسل الأسير عمر القاسم من داخل سجنه رسالة إلى عموم الحركة الوطنية الأسيرة التي عايشته والتي جاءت بعده، سردها بالتالي، إن «العزاء الوحيد لنا بالسجن، هو وجودنا على ارض الوطن، والتعرف على أبناء صهيون عن قرب، من خلال وجودنا معهم وجها لوجه، أنتم ربما تقرؤون أو قرأتم عن الصهيونية في الكتب والمجلات، ولكننا ونحن داخل السجون نلمسها طيلة أربع وعشرين ساعة في اليوم». قال لأخيه مرة قبل استشهاده، «إذا استشهدت، فلا تأخذوا ثمن استشهادي، فروحي فداء حبي لوطني ولشعبي».
فتكريم الشهيد الأسير عمر القاسم لم يقتصر على تنظيمه الذي ينتمي إليه «الجبهة الديمقراطية» الذي انتمى إليها انتماءاً حقيقياً بل تعدى ذلك في وصف أعدائه قبل أصدقاءه ورفاق دربه، فقد وصفه سجانيه بأنه «الرجل في الحياة والموت».
فذات يومٍ زاره في سجنه «اسحق نافون» رئيس دولة الاحتلال آنذاك، وقال له: «سيد عمر، أنا وأنت من مواليد القدس، ربما أكبرك بعشرين عاماً، وسياسي مثلك، ولا شك أنك تعرف مكانتي في إسرائيل. أنا أحترمك سيد عمر، وأريد أن أصل معك إلى حل يرضينا». قال له عمر القاسم: «إلى ماذا تريد أن تصل مع رجل له عشرون عاماً في السجون؟». قال اسحق نافون: «أريد منك فقط أن تدين الإرهاب، وأن تعترف بدولة إسرائيل، وتتعهد بعدم القيام بأي نشاط سياسي مقابل الإفراج عنك والسماح لك بالإقامة أينما شئت حتى في القدس». أجاب الأسير عمر القاسم: «سيد نافون لك منصبك، وعرشك ولنا سجوننا، ولا تظن أنني لا أحب الحياة والحرية ولا أكره السجون، ولكنني يا سيد نافون لن أساوم».
وقال عنه القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عبد الرحيم ملوح، إن «الشهيد عمر القاسم برز في العديد من المجالات الثقافية والإبداعية والتنظيمية إلا أنه أصر على حمل السلاح والنزول إلى ميدان المعركة في أرض الوطن، رافعاً شعار العلم والثقافة في مواجهة الاحتلال».
وقال عنه رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة: «نعم هذا هو عمر القاسم لمن لا يعرفه، بل يعجز القلم عن وصف خصاله وتجف الكلمات حينما تسرد سيرته، وتنحني القامات تقديراً حينما تتحدث عن بطولاته ومواقفه».
بل قال عنه عضو لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية عبد العزيز أبو عمرة، أمام مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمدينة غزة، في مسيرة نظمتها الجبهة الديمقراطية في ذكرى استشهاده الرابعة والعشرين، إن «الشهيد عمر القاسم ابن مدينة القدس كان من الأسرى الأوائل للدفاع عن فلسطين ومنها القدس والأغوار، الذي اعتقل في عملية العودة إلى الوطن عام 1968، وتحمل المرض الذي استشرى في جسده إلى أن استشهد في 4 حزيران 1989، لأن جرح الوطن أقوى وأعظم من جرح المرض».
واصل أبو يوسف أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية، أشار إلى أن الشهيد عمر القاسم هو من الأوائل الذين أثاروا قضية إلزام سلطات الاحتلال على التعامل مع الأسرى الفلسطينيين كأسرى حرب، وطالب محاكميه الاعتراف به كأسير حرب، وسرد ما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية مما أربك قضاة المحكمة الإسرائيلية الذين عجزوا عن الرد عليه، وأدعو أن فلسطين ليست بدولة ولا تنطبق على الأسرى الفلسطينيين المواثيق الدولية.
فيما الأسير المحرر محمود بكر حجازي قال، إنه «التقى عمر القاسم داخل السجن في العام 1968 ورأى فيه تجسيداً لصورة المناضل الفذ بإطلالته وكلامه وتحركاته، وأن وجوده في المعتقل قد أغنى تجربة كل من عاصره من جيل، ولم تكن الوحدة الوطنية بالنسبة له شعاراً، بل كانت ممارسة عملية، فهو كان دائماً يُغلب العام على الخاص .
فيما قال المدون هشام ساق الله: «أردت أن اطلع قراء مدونتي على تاريخ هذا الرجل الذي يستحق أن يتم تحويل حياته وتجربته إلى فيلم يروي معاناة هذا البطل الذي انتصر على السجان ولم يستسلم، وبقي ينتظر الحرية ولكن قدره أن يستشهد داخل المعتقل».
وأرسل الكاتب فايز أبوشمالة كلمات مودة وتقدير إلى الأسير عمر القاسم قال فيها: «غيمة سوداء حطت على المكان، وأمطرتني حزناً، ليغمرني الذهول، وأنا أسمع في «معبار» سجن الرملة من السجين «يحيى أبو سمرة»، أن عمر القاسم قد استشهد. لم أصدق الخبر، فعمر القاسم ذو الجسد الرياضي، ويجري على رأس طابور الصباح في باحة سجن عسقلان، بينما كنت، وأمثالي نلهث في آخر الطابور! فكيف استشهد عمر؟ لقد أرسلت له قبل شهر شعراً بمناسبة مرور عشرين عاماً على اعتقاله، وكان أول سجين فلسطيني يجتاز خط العشرين سنة، أرسلت له من سجن نفحة إلى سجن عسقلان كلمات مودة، وتقدير أنبتت الفرح في قلبه كما قيل لي، كلمات قرأها كثيراً في سجنه، وبصوت مرتفع، أذكر منها: «عشرون عاماً يا عمر! عشرون عاماً قضُّها وقضيضُها… لا صيفُها ألقى عصا ترحاله وشتاؤها ما زال في إبكاره… والأرضُ عطشى للمطر…عشرون عاماً يا عمر!.».
فقد أرسل القاسم رسالة للاحتلال أن «شعبنا لن يتنازل عن حقه في النضال والمقاومة حتى انجاز حقوقه الوطنية، ولا يساوم على قضيته لمصلحة حزبه السياسي أو شخصه بل يغلب مصلحة الوطن على ذلك، ولم يرض باتفاقات ومفاوضات عبثية تضيع الحقوق وتخذل المناضلين وتنتصر للاحتلال، والذي دعا كافة القوى والفصائل لتغليب المصالح الوطنية العليا عن المصالح الحزبية والفئوية الضيقة»، وجسد ذلك عندما ساومه أحد جنرالات الاحتلال الإسرائيلي عام 1987 بين حريته والتنازل عن بندقيته ومقاومته، فكان رد القاسم سريعاً وعفوياً، «لقد أمضيت أكثر من عشرين عاما في الاعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وطالما بقي كابوساً الاحتلال على صدر شعبي، سأبقى أقاتلكم».
هذا هو الشهيد القائد عمر محمود القاسم ابن فلسطين البار، وأحد قادتها العظام عبر عصور التاريخ، الرمز المشرق للنضال الوطني الفلسطيني والعربي، وهو في أسره، وفي استشهاده، وكيف خلده أبناء شعبه الحر الميامين، فسيبقى عمر القاسم، النبراس الذي يضيء طريق المناضلين والأحرار، ليس في فلسطين فحسب، بل في كل الديار العربية، وفي كل دول العالم المتطلعة للحرية والعدالة والسلام.
بقلم/ وسام زغبر