في حين أنّ الإقتصاد هو الآلية الأولى والأكثر نجعاً في صناعة القرار، فقد يكون أيضاً القنبلة الموقوته لتدمير الشعوب بإعتباره سبباً مهماً وراء الصراعات السياسية الأساسيّة بين الأمم، وهذا واضح بجلاء بين الدول وعلاقتها ببعض و التأثير أو خلق أي قرار من شأنه تلبية مصالح دولة ونهضتها أو الإضرار بها من خلال سطوة المال الذي تسعى لتحقيقه الحكومات والجماعات على حد سواء.
فإذا أُطّر المال بالقرار السياسي والتنفّذ العسكري صار هو القوة الوحيدة التي قد تسيطر على العالم بلا منازع، والأمثلة كثيرة وواقعنا هو الدليل الأكثر قرباً من هذا الزعم.
ما بات يُعرف بـ "صفقة القرن" المقترحة من الإدارة الأمريكية، التي سبق وذكر بعض بنودها المفوّض الأمريكي المسؤول عن الخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط وكبير مستشاري البيت الأبيض وصهر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، "جاريد كوشنر" والمبعوث الأمريكي للسلام، "جيسون غرينبلات" في 17 أبريل/نيسان 2019م من هذا العام أنه سيتم إعلان خطة السلام في أوائل يونيو/حزيران الحالي.
مؤتمر المنامة
في هذا السياق، تحتضن المنامة عاصمة دولة البحرين يومي 25 و26 يونيو/حزيران الحالي مؤتمر خطة السلام الأمريكية الموسومة بـ " السلام من أجل الازدهار". لقد أتى اختيار المنامة تحديداً دوناً عن الدول العربية لدعم ملك البحرين حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة لإسرائيل ووزير خارجيته الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، رغم فقر موقفه خليجياً.
ويستهدف المؤتمر جذب الإستثمارات إلى فلسطين والمنطقة بشكل عام، تزامناً مع تحقيق السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك في أول فعالية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية في الجزئية الأولى من المشروع.
ولقد أعلنت دول حليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفق تقرير لوكالة "رويترز" للأنباء موافقتها على المشاركة في المؤتمر
كالسعودية والإمارات، ونية إسرائيل المشاركة بعد تسلّمهم دعوة الولايات المتحدة، هذا مع إحتمالية مشاركة كُلّ من مصر وسلطنة عُمان من خلال مبتعثين.
بالإضافة إلى نية الدوحة بالمشاركة رغم تصريحها بوجود تحديّات إقتصادية وأخرى جيوسياسية مراعية بذلك المصلحة العليا للشعوب العربية.
في ذات الوقت يقوم "كوشنير" مع وفدٍ أمريكي رفيعٍ بزيارة إلى الأردن والمغرب والقدس لحشد الدعم الذي بدا يتضح بعدم مشاركة كثير من الأطراف المحورية إقليمياً ودولياً، وأخرها موقف جلالة الملك عبد الله، ملك الأردن بعد لقائه الآخر في عمّان تجاه مؤتمر البحرين الذي اتّسم بالتحفّظ والضبابية مع الضرورة لإقامة الدولة الفلسطينية، بإعتبارها بوابة الحلول لمشاكل المنطقة، وبتنسيق دائم ومستمر مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس واتفاق الجانبين على أهمية الموقف الفلسطيني.
رفْض الشارع العربي للمؤتمر
أثناء وصول " كوشنر" الأربعاء للعاصمة الأردنية عمّان ووقع احتجاجات شعبية تتفاقم رفضاً للخطة الأمريكية، وما يترتب عليها من تنسيق عربي في البحرين.
رغم هذا وذاك فإنّ الحكومة الأردنية ما زالت لم تعلن رسمياً عن مشاركتها أو عدمها في المؤتمر حتى اللّحظة، هذا مع رواج كثير النظريات من محلليين سياسيين أردنيين وغير أردنيين بمشاركة الأردن تارة وعدمها، وحيناً آخر مشاركة مقرونة بتقديم ذرائع وتبريرات، مع مطالبة الملك عبد الله الثاني إنصاف القضية الفلسطينية وموقف الأردن الثابت بضرورة الإعتراف بدولة عادلة للشعب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967م.
تزامناً مع إنهاء " كوشنر" زيارته للرباط التي لم تأتِ مخرجاتها إلّا بتصريحات حول تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة، دون التطرّق لخطة السلام التي حضر من أجلها الآخر. حسب الوكالة الرسمية المغربية.
كما وأبدت السلطة الوطنية الفلسطينية رفضها الشديد للمؤتمر. وأكّد ذات الرفض كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات ضرورة مراعاة مصالح الفلسطينين أولاً، مطالباً الساسة العرب العدول عن مواقفهم في المشاركة إحتراماً لمشاعر إخوتهم في فلسطين. كما قابل رجل الأعمال الفلسطيني المعروف بشار المصري المشروع بالإحْجام والإِسْتِنْكَار.
تتفاوت المواقف الدولية بين الرفض والإنتقاد والقبول، ففي الوقت التي ترفض فيه الأمم المتحدة المشاركة في الشق الإقتصادي للمؤتمر، أكّدت الصين وروسيا ضرورة البقاء على إقامة دولتين كحل أساسي وعادل ورئيس في المنطقة.
قمم السعودية الثلاثة
كخطوة تمهيدية لمؤتمر البحرين، عقدت السعودية يوم الخميس الموافق 30 مايو/أيار السالف القمّة الخليجية الطارئة، لما سمّي بمواجهة التدخلات الإيرانية، تلتها في نفس اليوم قمّة عربية طارئة، لبحث الموقف العربي وتوترات الخليج. كما وعقدت بعدها بيوم الدورة الرابعة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي برئاسة السعودية، حيث شارك رئيس الوزراء القطري الشيخ عبد الله بن ناصر آل ثاني، حيث بدت زيارته في الوهلة الأولى نقلة نوعية في العلاقات السعودية القطرية، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها مسؤول قطري للسعودية منذ اندلاع الأزمة الخليجية قبل عامين، إثر قرار قطع العلاقات مع الدوحة الذي تبنته السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر.
تمحورت أهم النتائج لمنظمة التعاون الإسلامي في توجيه إتحاد علماء المسلمين رسالة للقادة العرب، تزامنت مع انعقاد القمتين في مكة، فيها مطالبة حثيثة لإنقاذ المنطقة من حرب مدمرة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين.
لقد أتى عقد القمم في مكة توظيفاً رخيصاً للدين في كسب الجموع العربية والإسلامية لصفّ السعودية، بعدما نجحت الأخرى في الحصول على التأييد العربي والخليجي. كما وتعمّدت السعودية في مؤتمرات القمّة الثلاثة فى الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك بمكة المكرمة وبجوار بيت الله الحرام إسقاط الضوء عليها وحشد القدر الأكبر عبر البيانَيين الختاميَّين للقمّتَين ليلة الخمس والجمعة الموافق 30 و31 مايو/أيار، في سبيل كسب الرأي العربي والإسلامي العام ولعب دور الضحية من خلال الاعتداءات - وهي مشروعة للرد - من قبل "الحوثيين وإيران.
مخرجات قمم مكة الثلاث
لم تبعد مخرجات القمتين عن التنديد بالموقف الأيراني والتأكيد بحجم خطورته على المنطقة، وضرورة العمل العربي الإسلامي الجماعي لحماية البلاد من تدخل إيران، بإستثناء الموقف السوري الذي أقرّ شرعية الوجود الإيراني على أرضه. في الوقت ذاته حذّر الرئيس العراقي برهم صالح من تبعات الأزمة الإقليمية والدولية مع إيران التي تنذر بالتحول إلى حرب شاملة، إن لم نحسن إدارتها.
أحد أهم المخرجات الحقيقية لقمم مكة الطارئة الثلاث هي الإرهاصة حول تفاقم التوتر في العلاقات السعودية الإماراتية مع قطر من خلال التصريحات التي تقدّمها الدوحة وتفاعل السعودية معها سلباً، فيما يتعلق ببعض البنود مع السياسة القطرية، كخلق لغة حوار مع إيران، بدل دعم آلية التصعيد، والإحساس بالإمتعاض جرّاء تجاهل القمتين القضايا المحورية كفلسطين. بالإضافة إلى تصريح وزير الخارجية القطري حول إنهاء إقرار بياني القمتين العربية والخليجية قبل انعقادهما ودون الرجوع إلى الدول الإعضاء أو طرح قضايا القمتين معهم.
قد يكون التصريح الأخير هو الفتيلة الأكثر مساهمة في إشعال نار الخلاف مجدداَ بين الفريقين.
كلّ ما يدور في القمم العربية والإسلامية لا يدخل أبداً قيد التنفيذ، وخاصة بما يتعلق بالقضية الفلسطينية المحورية، والشاهد على هذا هو تعمّد الإحتلال الإسرائيلي حماية المتطرفين اليهود أثناء الإقتحامات السافلة لحرمة المسجد الأقصى، التي صادفت يوماً بعد إنتهاء القمم الثلاث.
بند آخر في غاية الأهمية أتى أيضاً بعد إنتهاء القمم بأيام، ألا وهو إلتهاب الشارع السوداني والخطوات العسكرية التصعيدية القمعية الوحشية التي يُقدِم عليها المجلس العسكري لفض الإعتصامات التي تطالب بتسليم السلطة للمدنيين في الخرطوم.
فهل لقاء عبد الفتاح السيسي مع عبد الفتاح البرهان - ولهما في تشابه إسميهما نصيب - وتزامن إنقضاء القمم العربية والإسلامية والسبل الإجرامية التي تتبعها قوات الدعم السريع السودانية التي راح ضحيتها لغاية اللحظة ما يزيد عن 100 قتيل عد الجرحى جاء عَرَضاً؟
هل هذا هو المؤشر على النصح السيسي والتأييد السعودي الإماراتي الذي ما زال يحصل عليه الآخر حتى الآن؟
وللمراقب أنّ يقرأ العامل الزمني والتقارب السياسي العسكري السوداني المصري المشترك، بالإضافة للمواقف السعودية الإمارتية الراهنة والداعمة.
فهل أتى هذا كله محضاً للصدفة؟ أم أنّه الدليل على مسرحية القمم العربية وحجم تبنيها الحقيقي للقضية الفلسطينية ومعها القضايا التي لا تتجاوز الجزيرة العربية؟
ماذا فعلت الدول العربية والمنظمة الإسلامية تجاه الانتهاكات الإستفزازية الصريحة؟ علّ هذا كلّه يؤكد الزعم القطري حول قمم مكة الثلاث!
مطالبة السعودية والإمارات لعقد القمم والنتائج التي خَلُصت إليها ورشات العمل قد تنقسم إلى شطرين وبتوسع وتفصيل سيتجاوز الأكثر:
الشطر الأول لموقف السعودية، الحليف الأقوى للولايات المتحدة الأمريكية هو حجم الضغوطات التي تمارسها الحكومة الأمريكية متمثلة برئيسها "دونالد ترامب" لضم الدول العربية لموقف السعودية من أجل المشاركة في مؤتمر المنامة الذي يعني بالضرورة الموافقة المبدئية لتمرير "صفقة القرن".
الشطر الثاني هو إيقاظ الشبح الإيراني من جديد في منطقة الخليج لجعل المنطقة في أجواء من التوتر والقلق الدائمين وبصورة أكثر تشنجاً وأبعد عمقاً ونفعاً لأمريكا من خلال تصعيد تصريحات الإدارة الأمريكية لتنذر بحرب جديدة.
وهو الذي تدندن عليه جميع الحقبات الحكومية الأمريكية منذ 70 عام في كل مرة تحتاج لضخ المال لخزينتها، ولا يختلف "ترامب" ووزير خارجيته "مايك بومبيو" ومستشار الأمن القومي "جون بولتون" عن أسلافهم في هذه السياسة القديمة المجبر على تصديقها جميع الدول النفطية وعلى رأسها السعودية والإمارات العربية.
في ظلّ هذه الظروف فأني أرى أنّ السياسة الأمريكية تسير بالإتجاه الصحيح من حيث كم الخوف الذي تخلقه إدراة "ترامب" في دول الخليج، حتى لا يكون لها ملجأ غير أمريكا، وبالتالي لا يقتصر الحضور العسكري في المنطقة على استنزاف مقدراتها، بل تتجاوز لتصل إلى تطبيق أجندة إسرائيلية تفرضها الحكومة عليها مقابل الحماية الوهمية، بالإضافة إلى ما ورد عن وزير الخارجية مؤخراً في فرضية رفض خطة السلام، التي ستسبّب حرج للدول المتبنية للمشروع.
هذا هو حال مصدر القوة الكائن في الإقبال والإحجام والكرّ والفرّ، رضي الله عن الصحابي البطل خالد بن الوليد.
إذن، تداعايات القمم الثلاثة التي دعت إليها السعودية هي الخطوة المبدئية البديهية التي فرضتها التجهيزات العسكرية الأمريكية في المنطقة، مع استمرارية التصريحات الصحفية الخطيرة بين الطرفين والتهديد بنشوب حرب دامية تنذر بفناء دول الخليج لتصل للمنطقة بأسرها.
هذا النوع من التزايد و التَضَخُّم و تَعَاظُم الأزمة المصطنعة أدخل دول الخليج بحالة هيستيرية جعلتها على أتمّ الجاهزية لتقديم أي ثمن مقابل البقاء.
يقول المثل العربي: "اكسر في اليمين واجبر في الشمال" بما معناه، الترغيب والترهيب، إلّا أنّ لسان الحال يقول أنّ أمريكا وإسرائيل وروسيا في الجبهة الأخرى كسروا اليمين والشمال حتى لا يبقى لنا غير الإذلال والإستسلام بإسم السلام.
وهذا كلّه يتم تسويقه تارة بإسم الغيرة على الدين وأخرى اللُّحمة القومية العربية.
وكلّ عام ونحن للكرامة والعزة أقرب، كلّ عام والأمّة العربية والإسلامية بخير.
دوسلدورف/أحمد سليمان العمري