يعود تاريخ مفهوم السلام الاقتصادي إلى شمعون بيرس الذي استهوته فكرة السيطرة على الشرق الأوسط ومقدراته من خلال اعتقاده أن إسرائيل تمتلك من الإمكانات ما قد يؤهلها للعب هذا الدور المركزي, لكنه حاول ان يوازي بين الوصول الى اتفاقات سياسية واقتصادية بشكل مقبول إلى حد ما. لكنه وحزبه لم يكونا جاهزين الى دفع الاستحقاق السياسي المطلوب عربيا وفلسطينيا في تلك ألحقبه .
أما نتنياهو الذي يرفض بشكل مبدئي فكرة حصول الفلسطينيين على أي من أشكال الدولة السيادية ولو في حدها الادنى , والذي سبق له وأن هاجم التفاهمات غير المكتوية ما بين – اولمرت – ابو مازن, وليفني – ابو علاء عامي 2008 و 2009, على الرغم من أنها كان فقط في حدود النقاشات ولم تكن تلبي الحد الادني فلسطينيا, إلا أن نتنياهو وجد فيها إضرارا بالمصلحة الإسرائيلية. وأما خطابه في جامعة بار ايلان حزيران 2009, فلا يمكن اخذه الا في اطار العلاقات العامة والاستخدامات السياسية في حينه, حيث يكفي العودة الى كتابة مكان تحت الشمس لندرك وبكل بساطة انه يرفض التخلي عن أي جزء مما يسميه يهودا والسامرة.
اما الحقيقة فهي أن نتنياهو يدرك حاجة إسرائيل لحالة مستقرة نسبيا, وهو يحاول تجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع جزء كبير من دول العالم ومؤسساته, وحتى لا يبدو عبثيا ومتطرفا مثلما كان حال وزير خارجيته ليبرمان في حينه فقد طرح مفهوم السلام الاقتصادي, محاولا بذلك الإبقاء على بعضا من نبضات قلب عملية السلام. واستطاع وعبر تعاون كبير من منسق اللجنة الرباعية الدولية توني بلير في ابقاء الفلسطينيين حبيسين لما أصبح يعرف ببناء الدولة وأجهزتها ومؤسساتها حتى يتحقق استحقاق الدولة السياسية السيادية.
منذ اللحظة الأولى التي تدحرج فيها مفهوم او شعار السلام الاقتصادي رفضه الفلسطينيون رسميا, عبر سيولا متكررة من التصريحات, وفي بعض الأحيان رافضين المشاركة في مؤتمرات دولية احتضنت فكرة التعاون الاقتصادي في ظل غياب الحل السياسي. و في أحيان أخرى حاولوا إحداث خرق في مفهوم السلام الاقتصادي الإسرائيلي, مثال التقدم بمشاريع اقتصادية في مناطق سي, او محاولة الحصول على دعم من الدول المانحة من اجل إقامة مطار في الضفة الغربية, إضافة إلى محاولة تغيير قواعد لعبة اتفاق باريس الاقتصادي , ولا شك أن هنالك العديد من الأمثلة الأخرى.
مضى على اتفاق اوسلو ما يقارب العشرون عاما, ومنذ لحظة إعلان المبادئ حتى الآن لم يطرأ على مفاوضات عملية السلام اي اختراق يذكر, كامب ديفيد الثانية انهارت, وطابا أصبحت تاريخ يذكر, ومفاوضات التقريب وجسر الهوة 2008 كانت عبثا, ومحادثات ابو مازن اولمرت قبل صعود نتنياهو الى سدة الحكم عام 2009 كانت لط حكي كما يقول المثل الفلسطيني.
خلال خمسة وعشرون عاما , وحتى في ظل عدم تبلور أو طرح السلام الاقتصادي على طريقة نتنياهو والذي يعتقد بانه سيكون سببا للهدوء الأمني والسياسي, لم تخرج السياسية الإسرائيلية عن مفهوم حسن النوايا والتي هي بجوهرها اقتصادية, بدء من التوقف وإعادة دفع مستحقات الضرائب الفلسطينية, وصولا إلى اعطاء اعداد اكبر من تصاريح العمال ورجال الاعمال,التلاعب بعملية السيطرة على المعابر وزيادة وانقاص عدد ساعات عملها. وبالمقابل تجاهل المتطلبات الاقتصادية الحقيقية مثل البناء والاستثمار في المناطق المسماة سي, والتي من شانها ان تخلق استدامة اقتصادية حقيقية. وبالتالي استطاعت اسرائيل ان تستخدم العامل الاقتصادي كجزرة تطوع بها حالات التمرد الانفعالية التي سادت لدى الفلسطينيين قيادة وشعبا, واداة فعالة لادارة الصراع السياسي, وابقائه لكن دون احداث اضرار نوعية لاسرائيل.
سيناريوهات مختلفة لكنها اقتصادية أولا وأخيرا:
تكشف الزيارات لجون كيري وزير الخارجية الأمريكية عن مجموعة من الحقائق, اعدتنا جميعها الي مربعي السلام الاقتصادي ومبادرات حسن النوايا كأدوات لإدارة الصراع السياسي وليس كآليات لإنهاء الصراع وفق جداول واضحة ومحددة, مرضية للشعب الفلسطيني ولطموحاته في التحرر الوطني, على الرغم من الاختلافات الجزئية ما بين الأمريكان ونتنياهو فيما يتعلق بالتكتيكات التي يمكن استخدامها. الا انها لن تفيد ابدا في ايجاد الحل السياسي. فلقد اثبت التاريخ الفلسطيني ان الرخاء الاقتصادي لا يغني عن التحرر من الاحتلال. فالانتفاضة الفلسطينية الاولى كانت في مرحلة تميزت بمستوى دخل مرتفع, ورخاء اقتصادي اكثر وضوحا اذا ما تمت مقارنته بالمرحلة الراهنة, ومع ذلك تمرد الفلسطينيين لانهم أرادوا حرية سياسية وسيادة غير منقوصة.
ولهذا نرى اسرائيل تنتهج اسلوبا يمكن تسميته سلاما اقتصاديا بمنطق حسن النوايا, حيث تتلاعب بمستحقات الضرائب, تفرج عنها عندما تشعر بتأزم الشارع الفلسطيني, بحيث يبدو الامر وكانه الامن مقابل الغذاء, لكنها قد تقدم اكثر قليلا في سبيل دفع الفلسطينين الى العودة للمفاوضات. وهي بعكس الامريكان الذين تغلب الجزره على العصا عندهم بحيث يريدون مشاريع اقتصادية اكثر حجم, مع بعض الدلالات السياسية لان مصالحهم الاقليمية اكبر مما هي مصالح اسرائيل الضيقة.
وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً وتمعنا "شرق أوسط جديد"، لشمعون بيرس حين تساءل عن ماهية "إسرائيل" المطلوبة، هل هي "إسرائيل" الكبرى جغرافياً أم اقتصادياً، معتبراً أن الظروف القائمة لا يُمكن أن تُنتج "إسرائيل" كبرى جغرافياً، دونما أساسٍ اقتصادي وشراكات مع الجيران تكون الغلبة فيها لـ"إسرائيل"، حيث رأى أنّه من الأنسب إعادة صوغ الخارطة الجيوسياسية في المنطقة بإعادة إدخالها النظام الشرق أوسطي الجديد ضمن أُسس تعاونٍ اقتصادي أمني ثقافي في الإطار الإقليمي. خاصةً وأنَّ هناك دولاً عدة تسعى لمنافستها إقليمياً، ولذا من الأفضل أن تشمل المرحلة القادمة شراكةً مع العرب يُضمن من خلالها قبول "إسرائيل" في المنظومة الإقليمية، وتقويتها في التصدي لأيِّ أخطار من الممكن أنْ تواجهها من دولٍ ستحاول حتماً الحصول على قوةٍ نووية أو عسكرية لمحاربتها، فإذا ما كانت الدولة ضمن منظومة الشرق الأوسط الجديد، ترتبط مصالحها بمصالح جيرانها والعكس، فهذا يعني مزيداً من القوة لإسرائيل، ومساحةً أكبر للتحرك، وخياراتٍ أكثر للمفاضلة
على غرار مؤتمر الاستثمار السعودي الذي أُعلن فيه عن "نيوم" ولم يُنفذ لأسباب مختلفة، يُعلن في البحرين عن استضافة مؤتمر أو ورشة عمل اقتصادية، نهاية الشهر القادم من العام الحالي، بدعوة أمريكية صريحة، تُعبر فيها أمريكا عن رؤيتها الاقتصادية ضمن صفقة القرن، والتي جاء ملخصها على لسان كوشنير كبير مستشاري ترامب، حينما اعتبر أنَّ "صراع الأجداد يُضيع مستقبل الأحفاد"، وأنّ المشاريع الاقتصادية والأرباح وفرص العمل هي بديل المواجهة والمقاومة والحرب، والحديث عن الماضي والتاريخ والقانون والحقوق والعدالة، والدماء التي أريقت، والحقوق التي اغتصبت، والبلدات التي هجرت، والبيوت التي هدمت، والأوطان التي سلبت، أو على أرض من سيقام أي مشروع، هي أحاديث الماضي التي لا تُفيد الآن، والأرباح التي سيجنيها المشاركون كفيلة بإثبات ذلك.
هذا التحرك هو الأحدث والأكثر صراحة في التعبير عن منطق التفكير في صفقة القرن، والقاضي بتغيير مرجعيات التفكير في حل كبرى قضايا الأمة ونقلها من مجال السياسة والقانون الدولي والشرعية الدولية، إلى مجال الاقتصاد، ومنطق الصفقات، وحسابات الربح والخسارة بالدولار والدرهم.
هذا التحول يعتبر استراتيجيًا، وهو لب ما يروج له بين الحين والآخر تحت عنوان صفقة القرن، ولا يقتصر الهدف منه على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وحسب، أو محو ذاكرة شعوب الأمة العربية والإسلامية بشأن كبرى قضاياها في العصر الحديث فقط، وإنما له أهداف أكبر منذ ذلك تتعلق بمصير النظام الدولي برمته، ومؤسساته ومنظماته الكبرى وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، من خلال محاولة الإلغاء الفعلي لفكرة الحدود الجغرافية بين الدول أو تقليل أهميتها، بحيث تُصبح الدولة مجرد جهاز شرطي أمني قمعي لجباية الضرائب، وخلق طبقات اجتماعية ذات رفاهية عالية مستعدة لمشاركة تلك الأنظمة مشاريعها، وتنفيذ أجندتها.
تسعى الاداره الامريكيه بخطتها ألاقتصاديه في ورشة البحرين إعلاء شأن الجانب الاقتصادي في أي حلول مستقبلية مطروحة، محاولةً لإلغاء المرجعية القانونية للقضية الفلسطينية، والمبنية على قرارات الشرعية الدولية التي يرغب الفلسطينيون بحل قضيتهم على أساسها، انطلاقاً من قرار التقسيم لعام 1947م، والقرار 242 لعام 1967، والقرار 194، مروراً بأوسلو وحتى مبادرة السلام العربية لعام 2002م، وإحلال مرجعية اقتصادية محلها، تُنسج خيوط بنائها من العلاقات الاقتصادية مع العرب وغيرهم، والتي يُروج لها على أنّها الحامي الأول للمخاطر المحيطة بإسرائيل والعرب والقادمة من إيران وتركيا في خلفية المشهد، وما يُمكن أن تُحققه من ازدهار ونموٍ اقتصادي كبير، استطاعت إسرائيل الترويج له من خلال أذرعها في العالم، وإقناع العرب به عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تلعب دوراً رئيسياً في التطبيع المتعاظم للعلاقات بين العرب وإسرائيل، بالضغط تارة، وبالتمني مرةً أخرى، وهذه الفكرة تُحقق لإسرائيل مكسباً أساسياً في جعلها قوة اقتصادية عالمية، يحتاج الدخول معها في صراعات أو تحديات إلى مراجعة جدية لحسابات الربح والخسارة التي من الممكن أن تحصل، خاصة في ظل تنافس عالميٍ واضح على تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من النمو الاقتصادي تطمح به معظم الدول، الأمر الذي يجعل هناك مفاضلة حقيقية بين القضية الفلسطينية والاقتصاد.
مؤتمر البحرين هو بجوهره وواقعه لا يعدوا كونه المخطط الصهيو أمريكي للشرق الاوسط الجديد وهو الذي اختطه شمعون بيرس وبشرت به كوندليزا رايس وحاول جون كيري تمريره وها هي أمريكا تعاود الكره من خلال كوشنير وغرينبلات وبمحصلة تقرير الموقف إن ما يعلنه مؤتمر البحرين بصورة أو بأخرى عن الدفع بمشروع السلام الاقتصادي للأمام مرفوض للفلسطينيين كما الشعوب العربيه ما بقي الاحتلال، وطرحه سيضر بمصداقية الجهود الدولية، وسيفرغها من معناها، فالمطلوب هو إنهاء الاحتلال، لا تنمية اقتصادية تطيل عمره، وتذهب بالحقوق السياسية والقانونية للشعب الفلسطيني، لأن أي تنمية اقتصادية مقبولة للفلسطينيين تقاوم الاحتلال، وتعمل على إنهائه وتضع حدا للتوسع الاسرائيلي.
بقلم/ علي ابوحبله