صفقة “أس ـ 400“ وخيارات أنقرة... «الغرب» أم التوجّه شرقاً؟

بقلم: فيصل علوش

يتصاعد التوتر بين تركيا والولايات المتحدة منذ أشهر بسبب العديد من القضايا، لعلّ أبرزها منظومة صواريخ «أس-400» التي تعاقدت عليها أنقرة مع موسكو، وقضية أكراد سوريا والخلاف بين الطرفين بشأن كيفية التعاطي مع بعض تمثيلاتهم السياسية والعسكرية، وخصوصاً بعد تعاونهم مع الولايات المتحدة والدور الذي لعبوه في محاربة «داعش»، فيما تصنّفهم أنقرة كإرهابيين وترى فيهم «خطراً رئيسياً وداهماً عليها».

وقد جاء إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيراً عن إتمام «الصفقة» وبدء تسلمّ منظومة الصواريخ اعتباراً من تموز/ يوليو القادم، ليزيد في التوتر الحاصل ويضع تركيا تحت «سيف» العقوبات التي لطالما لوّحت بها واشنطن. وكانت الأخيرة خيّرت أنقرة بين الصواريخ الروسية، أو الحصول على مقاتلات «أف ـ 35» الأميركية، التي كانت تركيا وقعت اتفاقاً لشراء 100 منها، بكلفة تسعة بلايين دولار، وتشارك أيضاً مع شركة «لوكهيد مارتن» في صناعتها، من خلال مساهمة شركات التصنيع العسكري التركية في ذلك.

وتقول واشنطن إن منظومة «أس-400» غير متوافقة مع أنظمة حلف شمال الأطلسي، وإنها قد تشكل تهديدا لمقاتلات «اف-35»، فضلاً عن أنها تتنافى على حدّ قولها مع مشاركة أنقرة في مشروع صنع المقاتلات الأميركية. ويخشى الأميركيون من أن تُستخدم تكنولوجيا بطاريات أس- 400 لجمع بيانات حول مقاتلاتها وطائرات «الناتو» العسكرية، وأن تصل هذه المعلومات إلى روسيا.

وعلى ذلك، فقد أمهلت واشنطن تركيا حتى نهاية تموز/ يوليو للتخلي عن الصفقة الروسية، وقال البنتاغون قبل أيام إنّ الطيارين الأتراك الذين يتدرّبون حالياً في الولايات المتحدة على طائرات اف-35 سيطردون، وستلغى العقود الممنوحة للشركات التركية المشاركة في صناعة قطع للطائرات، في حال لم تتخلّ تركيا عن شراء المنظومة.

وقال مراقبون إنّه في حال إصرار الرئيس التركي على اتمام الصفقة، فستكون أمامه مهمة مستحيلة لإقناع الولايات المتحدة بعدم استبعاد تركيا من المشاركة في مشروع مقاتلات الشبح الأميركية، وذلك قبل لقائه الرئيس ترامب أواخر هذا الشهر، في وقت يكثف فيه الكونغرس الأميركي جهوده لتقويض «الصفقة»، مطالباً بفرض عقوبات على أنقرة بموجب «قانون مكافحة أعداء أميركا» المعروف اختصاراً باسم «كاتسا».

مقامرة أردوغان الخاسرة؟

وتمثل هذه التطورات، كما عبّر كثير من المراقبين، تصعيداً شديداً في المواجهة بين تركيا والولايات المتحدة، على نحو يمكن أن يضع عضوية تركيا التي استمرت لعقود في حلف شمال الأطلسي على المحك. فشراء تركيا المنظومة الروسية يعني في نهاية المطاف، كما خلص البعض، «تحالفها مع موسكو وخروجها الحتمي من الـ«ناتو»، ومن ضمن ذلك حتماً؛ إخراجها من مشروع انتاج وصناعة مقاتلات «اف 35» الأميركية المتطورة. وهو ما يعني أن على تركيا الاختيار؛ إما المقاتلات الأميركية، وإما المنظومة الروسية، وفي المحصلة إما استمرار تحالفها مع الغرب أو التوجّه شرقاً؟.

وقال مراقبون إن أردوغان يبدو «عالقاً» إزاء هذه القضية، أو كمن أقدم على «مقامرة» كبيرة خاسرة ستترتب عليها عواقب بالضرورة، سواء اختار اتمام الصفقة؛ فتكون العواقب مستقبل علاقة أنقرة بواشنطن وحلف الناتو، وكذلك مع أوروبا، أي تموضع تركيا ضمن الاصطفافات والتحالفات الدولية ودورها الجيوـ ستراتيجي، أم اختار إلغاء الصفقة؛ فتكون العواقب علاقة بلاده مع روسيا، وربما إبعاد أنقرة عن الاضطلاع بأي دور في رسم مستقبل سوريا، خلافاً لما ترغب به وعملت عليه طوال السنوات الماضية؟!.

وإذا كان أردوغان قد خطط للّعب على التناقضات بين واشنطن وموسكو، واستثمارها لتحقيق بعض الغايات والمآرب، فإنه فشل في ذلك ولن يتمكن من تحقيق ما يريده. وقد رجّح أغلب الخبراء والمحللين أن تركيا تتجه إلى خسارة علاقتها مع كلتا العاصمتين، فلا هي ستحافظ على صداقتها التاريخية مع واشنطن والغرب عموماً، ولا هي ستنجح في كسب ودّ روسيا وتحييدها بشأن الدور والطموح التركي شمال سوريا. خاصة وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو مُتمسّكاً بأن تتولى أنقرة تفكيك الجماعات الإسلامية المتشدّدة في إدلب، مثلما ينصّ على ذلك اتفاق آستانا، وهو يضغط على نظيره التركي ويضعه بين خيارين: تنفيذ الاتفاق أو الحسم العسكري التام.

ولعلّ أردوغان قد راهن على أنّ صفقة أس-400، قد تساهم في إغراء موسكو وكسب ودّها، وأن يكون المقابل «تفهماً روسيا لأجندة تركيا في سوريا». لكن ذلك لم يتحقق، وما يظهر حتى الآن هو أنّ موسكو لن تُقدّم أي مكافآت لأنقرة في سورية، وتفصل بشكل تام بين الصفقة وبين الوضع في إدلب، وتضغط على أنقرة لتنفيذ تعهداتها كاملة في آستانا.

الخشية من العقوبات

ولفت مراقبون إلى أن إدارة ترامب قد تفرض عقوبات جديدة على أنقرة لإجبارها على التراجع عن الصفقة، وأن استبعادها من برنامج مقاتلات أف-35 ليس إلا خطوة أولى. وأشاروا في هذا الصدد، إلى أن التصعيد في تصريحات المسؤولين الأتراك تجاه نظرائهم الأميركيين، لا يعكس حقيقة قلق أنقرة من خسارة التحالف مع واشنطن، وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات اقتصادية وسياسية وعسكرية.

فأنقرة تخشى من تأثر اقتصادها المتراجع أصلاً من أي عقوبات أميركية جديدة، كما تخشى من أية عقوبات عسكرية يمكن أن تنال من المستوى التسليحي للجيش التركي. علماً أنّ القوات التركية تعتمد على الولايات المتحدة بشكل أساسي في تسليحها، وتزويدها بطائرات ومروحيات وصواريخ وأنظمة حديثة ومتطورة. كما تخشى أنقرة من الأضرار الجسيمة لأي عقوبات عسكرية أميركية محتملة على صناعاتها العسكرية الناهضة، التي تعتمد بدرجة كبيرة على شراكتها مع المجمعات الصناعية العسكرية الأميركية، بما يتيح ويسهم في نقل التكنولوجيا العسكرية المتطورة إلى تركيا.

فهل يضطر أردوغان في النهاية إلى مراجعة حساباته، والعودة إلى الخيارات والحاضنة الأميركية؟ وهل تحقق له هذه «العودة» ما يصبو ويتطلع إليه من مرامي وأهداف سياسية راهنة، في وقت تهتمّ فيه تركيا بشكل أساسي في المحافظة على نفوذها ودورها في شمال غرب سوريا، وكذلك في الحدّ من دور ونفوذ الأكراد فيها.

بعض المؤشرات توحي، خلافاً للتصريحات اللفظية، أن تركيا لا يمكنها التخلي عن تحالفها مع واشنطن و«الأطلسي»، وإنها تعمل على نحو حثيث لنشر منظومة صواريخ «باتريوت» الاميركية، كبديل عن المنظومة الروسية، وهو طلب لاقى ترحيباً أميركيا وأوروبيا.

الإجابة على التساؤل السابق، تكمن، حسب كثير من المهتمين، في الكيفية والطريقة والوسائل التي ستدار بها معركة إدلب المُزمعة، والتي يعتبرونها مؤشراً إلى ما تريده وترغب به، وتعمل من أجله، معظم الأطراف المنخرطة في الملف السوري؟!.

بقلم/ فيصل علوش